أ.د عبدالله بن أحمد الفيفي
(17 - اليَمُّ، ويام.. والنقل التأويلي للبحر الأحمر)
بعد أن ذهب التأويل بـ(الصليبي) إلى توهُّم أن (مصرايم) التوراتيَّة هي مستعمرة مِصْريَّة في (عسير)(1)، وأن (الربع الخالي)، أو جزءًا منه، هو (البحر الأحمر)، المشار إليه في (التوراة) و(القرآن) بـ»اليَمّ»، سيذهب بك شوطًا آخر في موضع آخر من كتابه «خفايا التوراة»(2)، ليقول إن «اليَمَّ» المذكور في التوراة هو إشارة إلى قبيلة (يام) العربيَّة! وهذا نهجه في الدوران مع الحروف، لتصبح الرمالُ بحارًا، والقبائلُ مَواطِنَ، ويامُ يَـمًّا!
ولئن لم يكن القارئ مؤمنًا بقِصَّة الخروج تاريخيًّا، فما يسوغ عليه أن يكون ذلك هو تفسير التوراة. هذا النصّ الذي زعم صاحبنا أنه إنما جاء ليفسِّر خفاياه، بوصفه وثيقةً تاريخيَّةً، فإذا هو يسعى إلى أن يلغيه إلغاءً لا ليفسِّره. والحقّ أنه ما كان في يديه إلَّا أن يلغيه كي يؤلِّف توراته الخاصَّة؛ لأن التوراة، على تُرَّهاتها، لا تستقيم وترَّهاته! بيد أنه لن يلغي التوراة، بل سيحتال في إلغاء معانيها باسم التأويل وكشف الأسرار. ومِن هذا لَعِبُه على كلمة «اليَمِّ»، قائلًا إنها إشارة إلى قبيلة يام، ذات المكانة والتاريخ! ولكن صدِّق أو لا تُصدِّق أن يامًا كانت قبيلة، وكبيرة جدًّا كاليَمِّ، هناك منذ ما قبل عهد الخروج. لا تَقُلْ إن يامًا نفسه لم يكن قد خُلِق في ذلك التاريخ! ذلك أنه: (يام بن أصبى بن دافع بن مالك بن جشم بن حاشد)، من همدان. ولا يُعثَر على ذِكرٍ لجد يامٍ الرابع (حاشد) قبل القرن الرابع قبل الميلاد. فكيف كان ليامٍ قبل ذلك التاريخ بنحو ألف سنةٍ ذِكرٌ بوصفها قبيلة هائلة، ذات بلادٍ واسعةٍ، يُشار إليها في سِفر الخروج؟! إلَّا إنْ جاءنا الصليبي بشهادة ميلاد أخرى ليامٍ هذا. أم تُره ظنَّه (يامًا بن نوح)، أخا (سام) و(حام)، الذي غَرِق في طوفان نوحٍ، كما ينقل (ابن كثير)(3)؟! وكلّ مَن (أو ما) جَهِل القدماءُ أصلَه جعلوه عادةً من أبناء (نوح)! وتلك حكاية أخرى. غير أن الحكاية الأهمّ هنا هي أن قبيلة يامٍ قد نَظَرَ إليها صاحب «الخفايا» كـ{بَحْرٍ لُجـِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ سَحَابٌ، ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ، لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا، ومَن لَمْ يَجْعَلِ اللَّـهُ لَهُ نُورًا، فَمَا لَهُ مِن نُور}! كذا كانت قبيلة يامٍ في مخيال الصليبي الواسع. فهي ذلك اليَمّ الذي ضربه (موسى) بعصاه فانفلق، فصار كل فِلق كالطَّود العظيم! وهي البحر الذي تكرَّرت الإشارة إليه بإلحاح في سِفر الخروج!
أمَّا النص التوراتي، فواضح في إشاراته إلى أنه كان في طريق (بني إسرائيل)، خارجين من أرض (مِصْر)، بحرٌ ما. وما من بحرٍ بين عسير و(الفَلَسَة)، ولا بين عسير و(اليمامة). لكنك لن تدري، والكتاب بعنوان «خفايا التوراة»، عن أيّ «توراة» يتحدّث المؤلِّف؟ إنها، بلا شكّ، توراة جديدة، أراد أن يخترعها من عند نفسه كي تتّفق، ولو بعض الاتّفاق، ومزاعمه في تاريخ بني إسرائيل. وإلَّا فاقرأ (سِفر الخروج، الإصحاحات 14- 15، 19)، لتعلم أن الرجل لا يقرأ التوراة، في حقيقة الأمر، بل يقرأ من خيالاته:
«وكَلَّمَ الرَّبُ مُوسَى قَائِلًا: «كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَرْجِعُوا ويَنْزِلُوا أَمَامَ فَمِ الحِيرُوثِ بَيْنَ مَجْدَلَ والبَحْرِ، أَمَامَ بَعْلَ صَفُونَ. مُقَابِلَهُ تَنْزِلُونَ عِنْدَ البَحْرِ... فَشَدَّ [فرعون] مَرْكَبَتَهُ وأَخَذَ قَوْمَهُ مَعَهُ. وأَخَذَ سِتَّ مِئَةِ مَرْكَبَةٍ مُنْتَخَبَةٍ وسَائِرَ مَرْكَبَاتِ مِصْرَ وجُنُودًا مَرْكَبِيَّةً على جَمِيعِها. وشَدَّدَ الرَّبُّ قَلْبَ فِرْعَوْنَ مَلِكِ مِصْرَ حَتَّى سَعَى وَرَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ... وأَدْرَكُوهُمْ. جَمِيعُ خَيْلِ مَرْكَبَاتِ فِرْعَوْنَ وفُرْسَانِهِ وجَيْشِهِ، وهُمْ نَازِلُونَ عِنْدَ البَحْرِ عِنْدَ فَمِ الحِيرُوثِ، أَمَامَ بَعْلَ صَفُونَ... فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «مَا لَكَ تَصْرُخُ إِلَيَّ؟ قُلْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَرْحَلُوا. وارْفَعْ أَنْتَ عَصَاكَ ومُدَّ يَدَكَ على البَحْرِ وشُقَّهُ، فَيَدْخُلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ في وَسَطِ البَحْرِ على اليَابِسَةِ... ومَدَّ مُوسَى يَدَهُ على البَحْرِ، فَأَجْرَى الرَّبُّ البَحْرَ بِرِيحٍ شَرْقِيَّةٍ شَدِيدَةٍ كُلَّ اللَّيْلِ، وجَعَلَ البَحْرَ يَابِسَةً وانْشَقَّ الماءُ. فَدَخَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ في وَسَطِ البَحْرِ على اليَابِسَةِ، والماءُ سُورٌ لَهُمْ عَنْ يَمِينِهِمْ وعَنْ يَسَارِهِمْ. وتَبِعَهُمُ المِصْرِيُّونَ ودَخَلُوا وَرَاءَهُمْ. جَمِيعُ خَيْلِ فِرْعَوْنَ ومَرْكَبَاتِهِ وفُرْسَانِهِ إلى وَسَطِ البَحْرِ... فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «مُدَّ يَدَكَ على البَحْرِ لِيَرْجعَ الماءُ على المِصْرِيِّينَ، على مَرْكَبَاتِهِمْ وفُرْسَانِهِمْ». فَمَدَّ مُوسَى يَدَهُ على البَحْرِ فَرَجَعَ البَحْرُ عِنْدَ إِقْبَالِ الصُّبْحِ إلى حَالِهِ الدَّائِمَةِ، والمِصْرِيُّونَ هَارِبُونَ إلى لِقَائِهِ. فَدَفَعَ الرَّبُّ المِصْرِيِّينَ في وَسَطِ البَحْرِ. فَرَجَعَ الماءُ وغَطَّى مَرْكَبَاتِ وفُرْسَانَ جَمِيعِ جَيْشِ فِرْعَوْنَ الذي دَخَلَ وَرَاءَهُمْ في البَحْرِ. لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ ولاَ وَاحِدٌ. وأَمَّا بَنُو إِسْرَائِيلَ فَمَشَوْا على اليَابِسَةِ في وَسَطِ البَحْرِ، والماءُ سُورٌ لَهُمْ عَنْ يَمِينِهِمْ وعَنْ يَسَارِهِمْ... ونَظَرَ إِسْرَائِيلُ المِصْرِيِّينَ أَمْوَاتًا على شَاطِئِ البَحْرِ... ثُمَّ ارْتَحَلَ مُوسَى بِإِسْرَائِيلَ من بَحْرِ سُوفَ وخَرَجُواإلى بَرِّيَّةِ شُورٍ... ثُمَّ ارْتَحَلُوا من إِيلِيمَ. وأَتَى كُلُّ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إلى بَرِّيَّةِ سِينٍ، التي بَيْنَ إِيلِيمَ وسِينَاءَ في اليَوْمِ الخامِسَ عَشَرَ من الشَّهْرِ الثَّانِي بَعْدَ خُرُوجِهِمْ من أَرْضِ مِصْرَ... في الشَّهْرِ الثَّالِثِ بَعْدَ خُرُوجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ من أَرْضِ مِصْرَ، في ذلكَ اليَوْمِ جَاءُوا إلى بَرِّيَّةِ سِينَاءَ. ارْتَحَلُوا من رَفِيدِيمَ وجَاءُوا إلى بَرِّيَّةِ سِينَاءَ فَنَزَلُوا في البَرِّيَّةِ. هُنَاكَ نَزَلَ إِسْرَائِيلُ مُقَابِلَ الجَبَلِ.»
تلك هي التوراة وذلك هو نَصّها: مِصْر.. المِصْريُّون.. البحر.. الماء.. شاطئ البحر.. بَرِّيَّة سِيناء...
فأين مسرح هذه الأحداث؟
أ بين عسير واليمامة؟
إمَّا أن يُلغي الصليبي هذه التفاصيل من التوراة، أو أن يوجِد لنا بحرًا شرق عسير، ليؤلِّف وَفقه توراته الجديدة، التي يكتبها بيده، ويرسم لفيلمها «السيناريو» الذي يريد. إلَّا إنْ قال إن أرض الميعاد كانت غربًا، في (أثيوبيا) مثلًا! وحتى لو قال ذلك، فإن هذه القِصَّة لن تركب معه بحر تأويلاته. أمَّا (بحر سافي)، أو (قبيلة يام أو اليَمّ)، أو قوله إن البحر (سَيْلٌ) دهمهم في أثناء مطاردتهم من قِبَل المِصْريِّين؛ أمّا هذا ونحوه من تلك الافتراضات الجوفاء التي بقي يتردَّد بين جنباتها، فآية من آيات المكابرة النصوصيَّة والتاريخيَّة، أعظم من مكابرة فرعون وجنوده! وهي مكابرة دفعته حين أتى إلى شخصيَّة (بلعام)- الذي شارك في الاحتفال بخروج شعب (إسرائيل) من مِصْر واتِّحادهم- ولمَّا أنْ وجد أن حفريَّات (دير علّا) بأرض الغور من (المملكة الأردنيَّة الهاشميَّة) قد وُجِدت خلالها كتابات آراميَّة تتحدّث عن بلعام وعن أخبار مهارته في العِرافة؛ لمَّا أنْ وقف على ذلكم كلّه، زعم أن شخصيَّة بلعام شِبه أسطوريَّة، أوَّلًا، ثمَّ ثانيًا: أن ذلك إنما يدلّ على انتشار أخبار بلعام في غير الجزيرة العربيَّة، وصولًا إلى الأردن! مع أنه لا ذِكر لا لبلعام ولا لغير بلعام في الجزيرة العربيَّة، ولا آثار، ولا كتابات، ولن يجد شيئًا من ذاك مطلقًا، ولو حفر سراة (زهران) حجرًا حجرًا، بل نَخَلَ (الحجاز) كلّه جباله وتهائمه، أو قَلَبَ (القصيم) رأسًا على عقب- الذي حدَّده لنا تحديدًا جديدًا مبتكرًا على أنه يقع «بين الحجاز ونجد»(4)!- زاعمًا أنه موطن بلعام (شِبه الأسطوري سابقًا!)؛ قال: لأن في القصيم واحة اسمها «الطرفية»، ولم يجد اسمًا أطرف من هذا الاسم ليربط بينه واسم «فتور» التوراتي. فحكم أن تلك الواحة، إذن، هي موطن الشاعر العرّاف (بلعام بن بَعُور القصيمي!)، الذي تعنَّى قاطعًا القفار والتلاع والوهاد إلى سَراة زهران لَلَعْن بني إسرائيل، ولكن الله سلَّم، فمدحهم في النهاية بضغطٍ من إلاههم يَهْوَه!
أمَّا الأنهار حين تَرِد في التوراة، فهي ليست بأنهار البتَّة عند الصليبي، بل مجرد وديان. كيف لا، والبحار نفسها حين تَرِد هي لديه مجرد سيولٍ في وديان، أو هي أحيانًا، إنْ كان لا بُدَّ، إشارات إلى قبيلة يام؟!(5) والمؤلِّف معذور في هذا؛ فأنَّى له بأنهار وبحار في جزيرة العرب ليتنصَّل بها من حكاية الأنهار المعروفة والبحار في نصوص التوراة؟! لا بدّ، إذن، من تحريف الكَلِم من بعد مواضعه، لتحريف التاريخ والجغرافيا كليهما، ومِن ثَمَّ تدبيج سلاسل من المؤلَّفات تُبدئ وتُعيد في هذا المضمار المغري والمثير لمن كان له خيالٌ عنكبوتيٌّ أوسعُ من فُوَّهةِ التوراة، وتنبلج أساريره أبدًا لأحاديث الخُرافة!
** ** **
(1) وقد كان الجدل القديم بين الباحثين التاريخيِّين حول مكان (مصرايم) التوراتيَّة: أ هي (مِصْر الأفريقيَّة) أم (معن مصران) في (مَعان)، بـ(الأردن ). (انظر مثلًا: علي، جود، (1993)، المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، (بغداد: جامعة بغداد)، 2: 121). لكن أحدًا لم يشطح شَطْحَ (الصليبي) في نُجعته النائية الحديثة.
(2) انظر: (2006)، خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل (بيروت: دار الساقي)، 244.
(3) انظر: (1998)، البداية والنهاية، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي (القاهرة: دار هجر)، 1: 262.
(4) انظر: خفايا التوراة، 265- 266.
(5) انظر: م.ن.