د. عبدالله بن راضي المعيدي ">
إنَّ واقعَنا اليومَ لهو واقعٌ موحِش، تتلاطم فيه ظلماتُ الفِتَن كتلاطُم موج بَحر لُجِّيّ يغشاهُ موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحاب، ظلماتٌ بعضها فوق بعض..
فتنٌ عمياء صمَّاء بكماء، تَدعُ الحليم حيرانًا واللَّبيبَ مذهولاً، وهذه الفتنُ التي تعترينا حينًا بعد آخر إنما هي في حقيقتها تمحيصٌ وابتلاء، {لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} (37) سورة الأنفال، وفي الصحيحين أنَّ النبيَّ قال: «ستكون فتنٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائمُ فيها خير من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي، من تشرَّف لها تستشرفْه»، يقول الحافظ ابن حجر في معنى قوله: (من تشرَّف لها): «أي: تطلَّع لها بأن يتصدَّى ويتعرَّض لها ولا يُعرض عنها»، ولذلك فعلى العاقل أن يحذر من التعرض للفتن، والكلام فيها من غير علم..
وفي هذه الآونةِ كثر محاولات حلقاتُ الإخلال الأمنيّ في بلادنا، وقلَّت في واقعنا هيبةُ الدم المسلم وحرمتُه وعصمتُه، وهذه المعطياتُ تحتاج منا للحديث عنها، وبيان أسبابها، وهذا بحاجة لمقالات، وبرامج، وخطب، غيرَ أنَّ ضيق مساحة المقال تضطرُّنا إلى ذكر الأهمّ، وهو الذي ألخصه في الأمور التالية:
أولاً: أنَّ استقرارَ المجتمع والذي يهنأَ المسلِم فيه بطعامه ويُسيغ شرابَه ويجعَل نهارَه فيه معاشًا ونومَه سباتًا وليله لباسًا لا يُمكن أن يتحقَّق إلاَّ تحتَ ظلِّ الأمن الوارفِ، فالأمنُ والأمان مطلبٌ مُلِحّ للمجتمعات طُرًّا، لا يُنكر ذلك إلاّ مُكابر أرعَن؛ لأنّ الأمنَ إذا اختلَّ فإنّ مغَبَّته لن تكونَ قاصرةً على المخلِّ به فحسب، بل إنّها ستطال نفسي ونفسَك أيّها المسلم، وولدِي وولدك، وأسرتي وأسرَتك، صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وابن ماجه أنه قال: «من أصبَح آمنًا في سِربه معافًى في جسدِه عنده قوتُ يومِه فكأنَّما حِيزَت له الدنيا بحذافيرها»..
ثانياً: أنَّ الإرهاب بجميع صوره وأشكاله ومن أشدها أحداثَ التفجير - والتي تعرضت لها بلادنا سواء في الشرقية أو في الرياض قبلها- واستهدَفت معصومي الدمِ فيها لهي أمرٌ لا يرضاه دينٌ ولا عقل ولا عُرف، وأنّ الموقفَ الشرعي الصّريحَ الذي لا لبسَ فيه ولا خلاف علي هو شجبُه وتحريمه، وأنّ استنكاره درجةٌ واجبة من درجاتِ تغيير المنكَر، وأما الرِّضا به والفرحُ فهو لونٌ من ألوان الخيانةِ في الباطن، فالنصوصُ الشرعية متكاثِرة في بيان حُرمة المسلم وعِصمة دمه وبيان احترامِ حقِّ السُّلطان المسلم وعدمِ الافتيات عليه.
ثالثاً: كل ما سبق ذكره محل اتفاق بين جميع العقلاء، وبين أهل السنة والشيعة، وكله داخل في دائرة الاتفاق، والكل منّا متفق عليه..
وإذاً أين دائرة الاختلاف في مثل هذه الأحداث؟ وما الأشياء التي يطالب بها كل طرف الآخر؟
في نظري هناك أمور لا بد من الحديث عنها، ولا بد من التوقف عندها، وليس من المنطق أن توجه السهام كلها لأهل السنة، وهم الأكثرية، وغير متهمون بمثل هذه الأعمال، بل هم من أول من ذاق مرارتها، وتجرّع غصتها، ولذلك هناك تساؤلات مهمة، ونقاط لا بد من الحديث عنها ومن ذلك:
1- من فجر بالقطيف فجر في الرياض قبله، وإذا كان التفجير والتكفير قد طال أهل السنة قبل الشيعة، ومن تتبناه فرقة خارجية ضالة، فلماذا نجعل تفجير الدمام وقبله القطيف وكأنه موجه من أهل السنة للشيعة؟ ولماذا يستجر كثير من مثقفي الشيعة، وبعض الإعلاميين المحسوبين على أهل السنة الحديث من تجريم الحدث إلى الحديث عن المناهج التعليمية، والحماية الأمنية، والخطباء، والمشايخ، بل الدولة بأكملها.
2- في المقابل تتعجب من هذا الصمت عند خطباء ودعاة ومثقفي الشيعة عن الحديث عن إيران، ودورها في زعزعة الأمن، ومحاربتها لهذه البلاد، فلا تسمع من أحد منهم ألبتة توجيه أصابع الاتهام لإيران، ولا لأذرعها النائمة؟ بل في المقابل تحميل المجتمع بل الوطن بأكمله وزر الجريمة؟
3- الأصل أن يقال: إن هذه الأحداث مدبرة - وهو ما يكاد يتفق عليه الجميع - لضرب وحدة البلاد، واجتماع كلمتها على ولي أمرها، لا أن نستغل الأحداث لنزع مكاسب طائفية مزعومة، والضغط على الدولة لتمرير رسائل معينة، وتكوين ما يعرف بالحشد الشعبي الشيعي السعودي على غرار الحشد الشعبي العراقي؟! وهذا أمر خطير جداً يجب عدم السكوت عنه وعليه.
4- القطيف من أرقى مدن المملكة، والشيعة منهم مهندسون، ومعلمون، وأطباء، وعسكر، ومبتعثون، ولهم تجارات، وأموال، ويأمنون على أموالهم، وأعراضهم؟ فأين الظلم، وأين الطائفية التي يتحدث عنها توفيق السيف وغيره!!
5- لقد أنكر علماء ومشايخ أهل السنة على من فجر في الرياض والشرقية وغيرها، وجرموا فعله، وكانت مواقفهم شجاعة! ولكن أين شجاعة توفيق السيف وغيره ممن اعتدى على رجال الأمن؟ وهل أنكروا عليهم؟ وأين هي مواقفه وغيره من نمر النمر وأتباعه المتطرفين.
6- لقد قامت الدولة وعلى أعلى مستوى بالاهتمام بما حدث في القطيف، فقام ولي العهد وأمير المنطقة بواجب العزاء، والوزراء، والمسؤولين، بل هيئة كبار العلماء قامت بذلك، وتوج ذلك باعتبارهم شهداء واجب بأمر من خادم الحرمين الشريفين، فماذا يريد توفيق السيف؟ أم يريد أن يستغل الحدث لمكاسب سياسية لم يستطع تحصيلها في لندن حينما كان معارضاً هناك؟!!
وختاماً: لا يجوز أن يُلقى باللاَّئمةِ إلى غير مرتكبي تلكم الأحداث، فلا يجوز أن ينسَبَ السبب إلى التديُّن مثلاُ، أو إلى علوم الشريعة ومناهجها، أو إلى العلماءِ والدعاة المخلِصين، فإنَّ السرقةَ في المسجِد لا تستدعي هدمَ المسجد، كما أنَّ عدمَ فَهمِ الشريعة والتديُّن لا يعني إلغاءهما من واقع الحياة، ولو تستَّر لصٌّ في حجابَ امرأة فلا يعني ذلك إلغاءَ الحجاب بالمرَّة.
فليتَّق الله أولئك الذين يشوِّشون عند كلِّ حَدَث سانِح، فيرمون أصالتنا وتمسُّكَنا بديننا ردحًا من الزَّمن بأنه هو سببُ هذه الحوادثِ والمعضلات، فيكون هذا التَّشويش تكأَةً يتَّكئ عليها أعداءُ الإسلام من الكَفَرة الحاقدين ومن المعجَبين بهم، وإن كيانَ هذه الدّولة قام واستقام على قواعدَ ثابتةٍ وأصولٍ راسخة من الدين والخِبرة والعِلم والعمَل، وهي قوية بإذن الله ثم بولاتها وعلمائها ورجالها...
حفِظ الله بلادَنا وبلادَ المسلمين من شرّ الأشرار وكيد الفجّار، وأدام علينا نعمةَ الأمن والأمان.
- جامعة حائل