فتاةُ المِرآة ">
وقفتْ أمامي مباشرةً تُولي وجهَها المرآةَ الصقيلةَ أمامنا.. التحمتْ الصورتان مثل ظِلَّين لأبجورةٍ ناعسةٍ على سطح منضدةٍ كاتمة شهادة في حضرة إضاءة خافتة تُغبِّش حقيقة اعْوِجاجِ العودِ واستقامةِ الظِلِّ، وإلاَّ ما حنَثَ يمينُ الصورةِ المُنْتحِل صفةَ اليسار! ولما اختلَّتْ المسافة بيني وبينها إنْ كانت هنالك ثمَّة مسافةٍ يُمكن أنْ يُضاف إليها تمييز، ولما زوَّرت المرآة أبعاد صورتنا الحقيقية في تلك اللحظة الساكنة سكون الضوء المتآمر مع حركات العتمة المسلَّحة بخجلٍ مُفتَعَلٍ يمرِّر أجِنْدةً داخليَّةً مُتَّفَقاً عليها مُسبقاً في رأد الضُّحى!
كان يلزمني أن أميل برأسي المُثقَلةِ قليلاً إلى اليسار لأُحدِّقَ في مدينتَيْ عيْنَيْها الساهمتين في نهرِ الامتنان، الغارقتين في كرنفالٍ أسودَ مُذاب وبنفسجيٍّ مُبعثرٍ بفعلِ غريزة الطبيعة الفوضويَّة وقُرْمُزيٍّ مُتفرِّقٍ دمُه بين قبائلَ رُحَّلِ السِّحْرِ الفتَّان وعكاظات الارتجال المُفوَّه صمتاً والمُختَزَل في بُحيْرتَي غمَّازتين ولساناً وشفتين.. كادتْ أن تسقط قصيدتا صدرِها في لُجَّةِ أبحُرِ الخليل لولا أدركها شِعْراً مُرسَلاً مُخلَّلاً بالاعتراك، مُشرَّباً بعبق الانعتاقِ منذ فطامه الاختياري من القافية المحفوفة بهالة الشفق الداكن المسْتمسك بأفقه القديم على القُطْرِ ذاتِه ومركز دائرته عينه! أزالتْ بأنامل تُخمتها خُصلةً لم تتمكَّن من طلب اللجوء لدى الهدْب الظليل حتى بانت نُدبةُ حاجبها الأيسر كعلامة تعجُّبٍ تنتصبُ أمام براعة استخلاصها!
امتلأ صدرُها بشهيقِ الارتياح، دفعها ناحيتي أكثر.. تتبَّعتُ أثرها على صهوةِ الزفير.. مالتْ برأسها كفرسٍ فتيَّةٍ جهةَ اليمين قليلاً لاحتطاب غروبٍ شاحبٍ أو احتلاب هزيعٍ دامسٍ من قَرْيَتيْ وجهي المُمْعنتين في بداوة البوح المُلثَّم بالقصيد.. السادرتين عكس السيول الجارفة صوب الأنهار التي لن تأبى الزيادة.. المسكونتين بعفاريت الأشجار المعمِّرة من السنط والطُنْدُب والسيَّال والحراز والطلح.. الهائمتين في عزيفِ جنيَّات التلال والرُّبا والقِفار.. المغروستين في شقوق الجروف الشبقات المتحرِّشات بالطَّمي مدَّاً والمعاول جزراً!
عندما أحسَّت بدُنُوِّ موْسمٍ جديدٍ افترَّت شفتاها عن كلمةٍ لا صوتيةٍ وهي تعلم وأعلمُ أنها قيلتْ قبلاً بأكثر من شَفَةٍ ولسان! ثم تنحْنحتْ استكانتها الخاشعة وقوفاً لتقول:
- ليتكَ لم تجئ إذنْ لافترشتُ الترقُّبَ والتحفتُ الانتظار اللذيذ وأنا أتابع أشواقي المهتاجة ترتعُ وقوفاً وقعوداً وعلى جنوبها! ليتكَ لم تجئ؛ إذنْ لجهلتُ معنى الخوف من المجهول.. أكثر ما أخشاه - يا خدْن روحي - أن أردِّد مع الشاعر
(أبداً تستردُّ ما تَهَبُ الدنيا
فيا ليت جودها كان بُخلا)!
قلتُ وأنا أحاول أن أُديرَ وُجهةَ التمنِّي والخوف عن المرآة المعطوبة الذاكرة إلى صورةٍ حيَّةٍ ينفخ فيها القلمُ أو الريشةُ من روح الفِعل والتفاعل:
-اللحظةُ ليستْربيبة الوقتْ، بل وليُّة نعمته التي يستمدُّ منها وجوده.. فما الوقتُ إلاَّ بضع لحظات.. اللحظةُ ابنةٌ شرعيَّةٌ للعمر لا يستطيع أن يسلبها كائنٌ ما كان حقَّها في ميراث السعادة.. ليس في مقدور الخوف من المجهول أن يعصبَ عيْنيها عن الآني أو يعصبها في تِرْكةِ الفرح أو عشق الوجود.. الموتُ - يا عزيزتي - هو الركون إلى الحزن والاستكانة في حُضن الواقع المرير.. الموت الحقيقيُّ هو أن نمُدَّ أبصارَنا نحو ما ليس لنا به علم!
قالت ضاحكةً جَبَّ كلَّ ما قبله من أوهامٍ ومخاوف:
- هيَّا بنا إذنْ، أرِني ما هو في حدود رؤيتنا!
قلتُ متصنِّعاً:
- إنما ترى القلوبُ التي في الصدور!
قبل أن أفكِّرَ في طريقٍ تُخرجني من هذا الإفحامِ الإنثويِّ المعهود؛ أخرجتْ - لا أدري من أين - هاتفها النقَّال.. صوَّبتْه نحوي، نحوها، نحو صورتَيْنا في المرآة، وقالتْ:
- تجهَّم قليلاً يا هذا!
قلتُ ضاحكاً:
- أديري وجهك يساراً يا أنتِ؛ تَبِنْ غمَّازتك اليُمنى عند الابتسام، أمَّا اليُسرى فلا يُعثر لها من أثر إلاَّ عندما تعضدين على ناجز الانفعال أو الغضب!
وبلمسةٍ خفيفةٍ بطرَف إبهامها دونما تحسُّبٍ لحساسية المواقف وسوء المآلات على أيقونةِ لوحة الهاتف - الذي لم يحتمل كتمَ الشهادة وحمل السر الثقيل وتأمين الخصوصية ضدَّ تصاريف القدر - كُنَّا على صفحاتِ اليوتيوب والواتساب وبعض أزِقَّة الأسافير مُستباحيْن- بما جنت يدانا وسائر جوارحنا - كسلعتين زهيدتين رائجتين بائرتين معروضتين للعالمين إلاَّ مَن أبَى!
- شاذلي جعفر شقَّاق
Jou_shagag@hotmail.com