الهنوف صالح الدغيشم ">
رغم اقترابنا من مرور شهر على حادثتين خطرتين في بلدنا إلا أن مجال الحديث عنهما لازال حاضرا، إن لم يكن ضروريا لخطورتهما واستثنائيتهما، مما يوجب نقاشا ومعالجة استثنائية. ما حدث في مسجد القديح وأمام مسجد العنود ماهو إلا فجيعة وطن مزدوجة بامتياز رغم النجاح الخارق في تلافي وقوع ضحايا أكثر في الأخيرة. أن تكون غاية قلة قليلة من شباب الوطن قتل مصلين مطمئنين في مساجدنا لهو شيء يفوق الفجيعة، فأعطاف هذه الحادثة مخيف وخطير.
إذا أردنا فعلا النجاة من هذه الفتنة، فعلينا بداية أن نشخص ما وراء هذه الأحداث، أن نقف بشجاعة ونتأمل بيتنا، موروثنا الديني والاجتماعي،
فما الذي يجعل كائنا بشريا من طبيعته البيولوجية المحافظة على جسده واجتناب أي خطر يحدق به ككائن حي، ما الذي يجعله ينساق بارادته عكس طبيعته؛ فيمزق جسده متطايرا ليحقق مقتلة لعدد من بني وطنه لم يعرف منهم أحدا من قبل.
الحل ليس مجرد رفع شعارات عن التعايش بين طائفتين، فهذه الشعارات نخبوية وهشة، لا تعني شيئا إن لم نتخلل إلى أعماق المشكلة، وجزها من جذورها، وتطبيق التعايش واقعيا، ابتداء من الأفراد إلى المؤسسات الحكومية ودوائر العمل الأهلية، نحتاج حقيقة لتغيير جذري في رؤيتنا للآخر أيا كان؛ الذي قد لا يكون آخر بمعنى ما، كما نتوهم، إن كل فرد يسعى في هذا الوطن المحاط بالحروب والصراعات الداخلية المتغيرة إلى مستقبل أفضل لنفسه وأسرته ووطنه وهو ما لن يتحقق إلا في ظل أمن واستقرار للجميع.. استقرار شامل يبدأ من دواخل النفس على المستوى الفردي والاجتماعي.
علينا أن نشير لبعض القلق الذي يساورنا أحيانا من دوافع الوصاية علينا أو على الآخرين، كلنا نخاف من بعضنا، من الأحكام الجاهزة الشائعة وغير المقننة، من استخدام أحكام مفترض أنها أحكام الله ضدنا، نحن ليس فقط في صدد فرض طائفة على أخرى، بل إن المتصدرين لنشر الأحكام وتطبيق المعايير السلوكية والمفاهيم الدينية يفرضون غالبا أحكاما فقهية متشددة لقضايا يسعها خلاف مسوغ أو فيها سعة أوسع مما يظن بعضنا، ومن خلال درجة الانصياع لأرائهم يحكمون على الناس ويحددون درجة صلاحهم أو يحاولون تضييق مجالات حركتهم وحريتهم.
إن من يتابع وسائل التواصل الاجتماعي، يتفاجأ بلغة الكره للآخر من جميع الأطراف، اللغة التي لا تحيي أرضا، ولا تحصد زرعا، لغة الكره هذه هي نتاج موروثنا الإنتقائي والقائم على الحدة في الفصل بين الأبيض والأسود، بينما توجد منطقة رمادية في الثقافة والعادات والسلوك بين البشر، بل تمتد منطقة التداخل الرمادية لتشمل مجالات معتبرة مما نراه من الدين، فاجتهادات الفقهاء تبدو منطقة متاحة للتداول ووجهات النظر غير الصارمة. نعم، قد يكون الاختلاف أساسيا وفي أصول معتبرة، لكنه قديم يصعب ردمه، والاختلاف لا يعني الصراع والاقتتال، أو فرض الرؤيا الواحدة.. انما القبول بواقع الاختلاف والاقتناع أنه لا يمنع التعايش بل والتعاون في جوانب الحياة المختلفة.
في خلال حياتي في ألمانيا، تخلصت من بعض ترسباتي الثقافية التي كانت تسورني بأسوار مختلفة، حينما رأيت مثلا كيف لدولة صغيرة كسويسرا، يتكون شعبها- شعب واحد- من أعراق مختلفة ويتكلم أربع لغات، لا يتقنونها جميعا، إلى درجة الحاجة لمترجم أو عبر الانجليزية في بعض المناطق المتجاورة، وتحتوي طائفتين دينيتين بنسبتين متقاربتين غير الأديان الأخرى والطوائف الصغيرة جدا، وتبدو من أكثر دول العالم تسامحا واندماجا وتعايشا وأمنا ومقصدا للسياحة، هذه الرؤية جعلت لي صديقات من طوائف مختلفة عني، نتشارك مرارة الغربة، نتسلى سويا، نتعارف ونتناقش، نتعلم من بعضنا، نتعاون ونستفيد. كوننا من مجموعة أقليات صغيرة مختلفة سهل؛ ويا للغرابة؛ تواصلنا واندماجنا معا ولم يحجب تواصلنا مع المجتمع الأشمل، والأجمل أنه منح قلوبنا تسامحا أكبر وأشعرنا كم هي واسعة متنوعة إنسانيتنا.
لعلي أميل يوما بعد آخر نحو التركيز على التعاون بين كافة الأطياف أثناء العمل والنظر نحو المشتركات الوطنية الجامعة واغفال ما يفرق من التشققات وتركها لقلة قليلة متخصصة لأنها لا تعني الأكثرية المتعلمة، التركيز على ما يجمع واستحضاره يسهل التكاتف والإنتاج.
فلتكن غايتنا ازدهار وطننا بالعلم والعمل فنمهد الطريق ليعيش أبناؤنا في وئام وسلام.
- طبيبة أسنان سعودية مبتعثة في ألمانيا