د. نوف بنت محمد بن حمد الزير ">
تعيش المرأة في عصرنا الحاضر رقياً ذاتياً وتطوراً فكرياً وتجدداً إبداعياً وحساً مجتمعياً جعلها بفضل الله تُسهم في تشكيل النهضة التنموية والنقلة الحضارية التي تكتسح العالم بأسره.
وتتميّز المرأة المسلمة والسعودية على وجه أخص بمحافظتها على القيم العالية النابعة من الدين والأصالة العريقة لمحيطها المجتمعي مع سعيها الحثيث لتكون رقماً مؤثراً في التنمية المستدامة.
يدعم ذلك ويؤكده القوة العلمية التي أصبحت المرأة تُشكلها بحصولها على درجات علمية عالية في مختلف التخصصات الحيوية. والقوة المالية التي حققتها بقدرتها على إنشاء وتأسيس وإدارة المشاريع التنموية باحترافية متقدمة.
ومن الدلائل القوية في هذا الشأن الثقل المالي الذي تصعد المرأة سُلّمه باطراد ملفت، آخره ما تم التصريح به في منتدى المرأة الاقتصادي 2014 م عن وجود المليارات من الريالات هي أرصدة نسائية في البنوك السعودية!!
وهو عامل قوي محفِّز وجاذب لفكرة عظيمة يتحقق بها للإنسان مصالح عظيمة في دينه ودنياه.
إن من المجالات الرائعة التي توجهت لها ثلة كريمة من النساء الفاضلات المجالات الوقفية.
و الوقف: هو حبس الأصل والتصدق بالمنفعة.سواء كان الوقف أهلي أو ذري أو عائلي وهو ما يوقفه الإنسان على نفسه وذريته وأحفاده وأسباطه أو أقاربه.
أو وقف خيري عام على الفقراء والمساكين وغيرهم من المحتاجين أو على منافع المسلمين كمسجد ومستشفى ومؤسسة خيرية أو ما سوى ذلك من المجالات التي تتحقق بها المصلحة والنفع المتعدي.
وتبرز أهمية الوقف في أنه من أعظم القربات لله تعالى التي يستمر بها عمل الإنسان بعد موته، ويصل بها رحمه في حياته وبعد وفاته، وينفع بها أقاربه و الأباعد، وتقوم على سد حاجات الناس والقيام على مصالح كثيرة كالمساجد والمستشفيات والمؤسسات الخيرية والطرق و السقيا وغيرها من أبواب الخير والبر .
لقد رصد لنا التاريخ جهوداً نسائية كثيرة فقد وقّفَتْ بعض أمهات المؤمنين وبعض الصحابيات الجليلات رضي الله عنهن و أرضاهن، وغيرهن من الموفقات من ذوات الفضل، فلم تزل عين زبيدة من أكثر الشواهد النسائية على عناية المرأة بالوقف على مر التاريخ. كذلك ما تحفل به بعض المصادر و يُحدِّث به كثير من الثقات أن جملة من النساء من جداتنا ومعاصريهن ومن سلفهن أبدعن في اختيار نوع الوقف - رغم بساطة بعضه الآن لكنه كان في وقته ذو شأن والله يضاعف لمن يشاء- فمنهن من وقّفَتْ تمر نخلة على تفطير الصائمين في المسجد ومنهن من وقّفَتْ على سراج المسجد ومنهن من وقّفَتْ حُليّاً أو مصحفا أو كتاب علم .
كما أن المرأة يمكن أن تكون ناظرة على الوقف قائمة على شؤونه حيث جعل عمر بن الخطاب ابنته حفصة رضي الله عنهما ناظرة على وقفه.
ويقتصر فهم بعضهم على أن الإنسان يوقف عن والديه أو قريب له مات وقد يوصي بوقف له بعد مماته والمأمول أن يسعى الإنسان ما أمكنه لتعيين وقفه وإنجازه والقيام عليه في حياته لتكتحل عينه به ويأنس بطاعته و تكون من الصدقة الجارية التي يتنعم بها بعد وفاته.
إن الوقف إلى جانب كونه عبادة لله تعالى وصلة للرحم ومنفعة للمسلمين فإنه يُسهم في حل مشكلة الفقر التي تعاني منها كثير من شعوب العالم ويدعم التنمية المجتمعية ويُظهر التكافل الاجتماعي الذي يُعدّ من أبرز سمات المجتمعات المسلمة.
كما أنه يمكن أن يُشارك في تبنِّي كثير من المشروعات التنموية والريادية التي تتحقق بها مصالح عامة للمسلمين، وتكفل تميّزهم في كثير من المجالات الحيوية التي يحتاجها وصولهم إلى قمم المعالي.
إن شعور المرأة أن هذا الوقف تجارة رابحة مع الله تعالى ومنفعة لها في الدنيا والآخرة ليبعث على الطمأنينة والراحة و السعادة؛ فما أجمل أن يسعى الإنسان ليترك ذريته أغنياء لا يتكففون الناس ، و يُسهم في سد حاجات المسلمين ويرى في حياته فرحتهم وراحتهم التي أنعم الله عليه كونه سبباً رئيساً فيها .
سيّما إذا ما خلصت النية لله سبحانه وتعالى واعتنت صاحبة الوقف بصياغتة صياغة شرعية محكمة بالاستفادة من الخبراء في شأنه؛ تتيح توجيه مصارف الوقف إلى ما هو أعم نفعاً و أكثر شمولية وأعظم أجراً.
ولا يقتصر الوقف على من يملك أرصدة باهظة؛ بل قد يوقف الإنسان أشياء لا تكلف كثير مال؛ كأن يوقف مصحفاً أو كتاباً أو بئر ماء أو سرير مريض أو ما شابه .
وقد يكون الوقف في مسجد أو مستشفى أو مجالات الخير المتعددة التي تصل منافعها للفقراء والمساكين والأيتام والمطلقات والأرامل ودور الرعاية ودور العلم والسقيا وغيرها من منافع المسلمين.
كما يمكنه أن يتضامن ويشترك مع غيره في وقف قلّ أو كثر ثمنه.
إن عناية المرأة المسلمة والسعودية بشكل خاص بالأوقاف يصحح نظرة من تنحصر رؤيتهم في أن اهتمام بعض النساء يكاد يكون محصوراً في أشياء محدودة الأهداف والمنافع بعيدة عن الشمولية و الاستراتيجية. فالواقع و الحمد لله يشهد بتألقها وتميّزها ورقي مقاصدها وسموّ أهدافها ونُبل غاياتها .
نعم بكل فخر نسعد بتوجه كثير من النساء للأوقاف وننتظر ممن أفاء الله عليها العناية بهذا الأمر الهام الذي يحقق لها منافع الدنيا و الآخرة، و يكون إسهاماً مجتمعياً وخدمة وطنية وبناءً خيرياً واقتصاداً مشرقاً.
إننا بحاجة ماسة إلى التوسع في المؤسسات الوقفية و إقامة برامج إعلامية للتوعية بثقافة الوقف: مشروعيتة وأهميته والحاجة إليه ومجالاته وإسهاماته في التنمية الاقتصادية والاجتماعية وآثاره النفسية.
وما حققته الأوقاف من نقلة نوعية لكثير من الأفراد و الأسر و المؤسسات والمجتمعات في رصد حقيقي واقعي ينقل صورة حية جاذبة لمن يطلع عليها.
كما أن ذلك سيدعمه عناية الجهات ذات العلاقة بوجود قواعد بيانات رسمية مُتاحة عن الأوقاف وما يتعلق بها مما ينتفع به الراغبون في الوقف ويفيد أهل الاختصاص .
لقد بدأنا نشاهد بكل اعتزاز مؤسسات وقفية وخبراء للأوقاف وبرامج تدريبية في هذا الشأن ولكن أهمية الموضوع والعناية به وحجم المجتمع وتطلعات ولاة أمره و أفراده تقول: هل من مزيد؟!