تحكي كتب التاريخ أنَّ رفقةً -ممن يكفِّرون بالمعصية ويفهمون النصوص فهماً سقيماً- كانوا يسيرون في طريق، فأحسُّوا بوجود فصيلٍ آخر، فخافوا على أنفسهم أنْ يَمتَحِنوهم ببعض الأسئلة ثم يَقتلونهم، فقال أحدُهم، واسمه واصل بن عطاء -وكان أعلَمَ أصحابه- : هؤلاء قد يقتلوننا بأدنى شبْهة، فَدَعُوهم لي أَكفيكُم شرَّهم، فخرج إليهم فقالوا له: ما أنتم؟ فأجابهم: «مشركون مستجيرون بكم، والله تعالى يقول: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} قالوا: قد أَجَرْناكم، فردَّ عليهم: «فأَسمِعونا كلامَ الله وعلِّمونا حدودَه» فعلَّموهم الأحكام، ثم قال لهم: «فأبلِغونا مأْمناً» فقالوا: هذا لكم، فساروا معهم حتى أبلَغوهم مأْمَنَهم. وهكذا لم يستطِع الخلاص والنجاة من القتل إلا بهذه الحيلة، ولسانُ حاله ما قاله الشاعر:
(تَحامقْ مع الحَمْقى إذا ما لَقيتَهُمْ
ولاقِهِمُ بالجهل فِعْلَ أخي الجهلِ)
إنَّ هذه الحكاية تُلخِّص لنا كيف يفكِّر هؤلاء الأغرار، ويصوِّرُ لنا ما عانتْهُ منهم الأمَّةُ في الماضي، وما تُعانيه اليوم منهم، ولقد صدق علماؤنا حين سمَّوهم: «أهلُ الأهواء» وما ذاك إلا لِتَسَلُّط أهوائهم القلبيَّة وانفعالاتهم وطيشهم، على أقوالهم وآرائهم وتصرُّفاتهم، وهو ما أشار إليه الكتاب العزيز: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} فلو أحَلْنا فَهْمَ القرآن والسُّنَّة إلى هؤلاء الأغرار، الذين لا يعرفون العلوم وأصولَها، لَنشأتْ فينا فرقٌ يتوالد بعضها من بعض بكثرة المرجعيَّات والزعامات، ذلك أنَّ كلَّ فرقةٍ تزعمُ أنها تُحرِّم التقليد وتدعوا لانتزاع الأحكام من النصوص من غير أصولٍ ولا قواعد، فأصولُها ومَرجعُها هو فَهْمُ زعيمها الحيِّ، وربَّما تعلَّقتْ بزعيم ميِّت، فإذا خرجَ أحدُ أفرادها عن فهمِ هذا الزعيم، انقضُّوا عليه بالويل والثبور، ورَمَوه بعظائم الأمور، واتَّهموه بالخيانة والعمالة للأجنبي، ثم استباحوا دمه، فمن قبيح أفعالهم ما أخبرني صديق من إحدى دول المغرب أنَّ ابنَ خالتِهِ كان زعيماً لإحدى هذه الجماعات، وقُتلَ على يديه كثير من الأبرياء، ثم إنَّ جماعته اختلفوا عليه، ثم اختلفوا فيما بينهم وتفرَّقوا إلى أكثر من فرقة - وهذا هو الشأن فيهم- فأراد أحدُهم أن ينتقم من زعيمهم السابق، فاتَّفق مع عدد من أصحابه على قتْلِ والدة زعيمهم السابق قتلاً شرعيَّاً!!! فاختطفوها ثمَّ امتحنوها، فسألوها: أين الله؟ وسألوها عن بعض مسائل الصلاة، فكانت نتيجة امتحانها الرُّسوب، وبهذا ظهر كُفرها وحلَّ دمُها، فقد ثبتَ لهم أنها كافرةٌ مباحةُ الدَّم، فذبحوها بالسكين! -رحمها الله وجعل ما أصابها رِفعةً لها عند الله- وهكذا تُباح الدِّماء بما يُسمُّونه «اجتهاد» من غير استنادٍ إلى قواعد تفسير نصوص الشريعة، وهو علمُ أصول الفقه، وهذا هو التلاعبُ بأحكام الشريعة، لقد كان فقهاؤنا ملتزمين بمرجعيَّتنا الشرعية، وهي فقه الكتاب والسنة الذي حَفِظتْهُ لنا المدارس الفقهية الأربعة المعتبرة، فاستنبطتْ هذه المدارسُ من نصوص الكتاب والسنَّة أصولاً كلِّيَّة وقواعدَ ضابطة، تنتظم كلَّ مسألةٍ تَجدُّ، وكلَّ نازلةٍ تقع، لأن النُّصوصَ ثابتةٌ والوقائع لا تتناهى، فليست مرجعيَّتُنا أشخاصاً، تتضاربُ فتاواهم جيلاً بعد جيل، كحال كثير من الفرققديماً وحديثاً، فكثيرٌ ممن ينتسب للإسلام من هذه الجماعات المتصارعة، المسلَّحة منها وغير المسلَّحة، والتي اختطفَتْ الإسلام، دينُ الله عندها هو ما يقولُهُ مرجعها الأعلى، أي زعيمُها وخليفتها الأوحد - أو مجلس شوراها أو غير ذلك من المسمَّيات- فهو المرجعية الدينية، فشعارُها «نحن رجالٌ، والأئمَّة السابقون رجال» مرجعيَّاتٌ تتوالد في كل زمان ومكان، فكلما تولَّى مرجعٌ - بموتِ مَن قَبْلَه، أوبِتَغَلُّبِه- دَفَنَ مَن سبقه، وصار يُشرِّقُ ويُغرِّب، بفتاوى لا خِطامَ لها ولا زِمام، إنَّ مرجعيَّتَنا ليستْ أشخاصاً يُقلَّدون، وإنما هي أصولٌ اتَّفق عليها جماعةُ المسلمين، وهم السواد الأعظم، هذه الأصول هي المادَّةُ الضابطةُ للاجتهاد، وهي التي بها حُفظتْ الأمَّة خلفاً عن سلف، وبقيَتْ مهتديةً بهدْي النبوة إلى يومنا هذا، من حيث تفرَّقتْ السُّبل بالجماعات التي نبتتْ على جسم الأمَّة ثم زالتْ بموت مرجعياتها، وربَّما تكاثرتْ بولادة مرجعيات أخرى، أما الأمة التي جعلتْ لها معالم تهتدي بها، وأصولاً تسير عليها، فمحالٌ أن يكون للهوى والميول الشخصيَّة أثرٌ في اجتهاد مجتهديها، فإذا اختلف فقيهان في مسألةٍ فقهية أو أصولية، فما أيسر العودة لكتب الفقه والأصول المعتبرة، فيُحسَم النزاع، وترتفع مادَّة الخلاف، أما الفرقُ التي مرجعُها فَهمُ الزعيم، فما أيسر ما تعصف بها الأهواء والانشقاقات، وهو الواقع الذي تعيشُه هذه الجماعات التي تتكاثر مع الزمن، والتي حذَّرَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منها بقوله: (فاعتزل تلك الفرق كلها).
د. قيس بن محمد المبارك - عضو هيئة كبار العلماء