من أبرز ما خلصنا إليه في الجزء السابق، أن علاقة نصوص الإسلام بالإنسان قوية ومستمرة، تبدأ قبل ولادته، أي منذ أن يبدأ الإنسان في التكوّن في بطن أمه، إلى أن يموت وتنتهي حياته.
وبين الولادة والوفاة تشتمل نصوص الإسلام على أشكال وألوان كثيرة من التعاليم في مختلف المجالات، ومنها (التربية والتعليم)، ثم تمتد النصوص الإسلامية للحديث عن الموت والرحيل من الدنيا، وما سيتلونه من مراحل البعث والنشور والحساب والثواب والعقاب.
وسيكون التركيز في هذا الجزء على موضوع التربية والتعليم في ظل الفلسفة الإسلامية.. فلا شك أن للعلم منزلة رفيعة عند المسلمين.. كيف لا وقد جعل الرسول محمد عليه الصلاة والسلام نفسه معلماً فقال «إنما بعثت معلماً»، وقد جاء في أمثالهم:
«من علّمني حرفاً ملكني عبداً» إلى غير ذلك من النصوص والأمثال التي تُبجّل العلم والعلماء.
أما التربية، فلا ريب أن التربية الإسلامية تنطلق نحو غايات كبيرة، يأتي على رأسها إفهام الإنسان أن الوظيفة الأساسية له في الأرض هي عبادة الله، وأنه خُلق لذلك: «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون» فالعبادة هي غاية وجودنا ووظيفتنا في التصوّر الإسلامي.
ومن المهم أن نشير إلى أن الكثيرين من مفكري الإسلام وفلاسفته اتفقوا في الأصل -مهما اختلفوا في الجزئيات- أن مفهوم (العبادة) أوسع وأشمل من مجرد طقوس وصلوات ودعوات وشعائر يؤديها المسلم، فكل خير يعمله الإنسان وكل نية طيبة صالحة تدخل ضمن (عبادة الله)، وبالتالي يحرص كثير من مفكري الإسلام على ربط الدين بكل شيء، فالعمل أو الوظيفة تتحوّل إلى عبادة إذا أحسن الإنسان النية وعمل وفق المبادئ والأخلاقيات والتعاليم القرآنية والنبوية.. والعكس صحيح، فإن الوظيفة تتحوّل إلى منكر ومعصية وما شابه من المرادفات، إذا خرجتْ أو خالفتْ التعاليم الإسلامية.. وقسْ على ذلك -أي على الوظيفة والعمل- كلّ ما يخطر على بالك من تفاصيل حياة الإنسان اليومية.
ومن غايات التربية الإسلامية بناء الإنسان بصورة العبد الصالح السالك لسبل الخير المتجنب للشرور والآثام والمعاصي, فتعمل فلسفة التربية الإسلامية على صنع الشخصيات المسلمة التامة المترابطة المؤمنة بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.. مع الإذعان لكل الأوامر والنواهي التي نصّتْ عليها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وتطبيق أركان الإسلام الخمسة كعبادات أساسية، ومن ثم ممارسة كل السلوكيات الظاهرة والباطنة بناء على تعاليم الإسلام في كل الشؤون الصغرى والكبرى.
والحقيقة هي أن فلاسفة الإسلام اهتموا أيما اهتمام بالتربية والتعليم، فأطالوا الحديث في مؤلفاتهم عن المعلم والمتعلّم (الطالب) من وجوه كثيرة.. وسنعرض لبعض ما كُتب في هذا الشأن:
تحتوي المكتبات العربية والإسلامية على عدد من المصنفات والمؤلفات الكثيرة التي جعل مؤلفوها عناوينها تحمل كلمات وجملا ذات صبغات تربوية تُبرز أهمية العلم، وأعداد هذه الكتب لا يمكن حصرها ولا عدها لكثرتها، ومنها مثلا كتب كثيرة جدًا عناوينها من قبيل (جامع بيان العلم وفضله) الذي ألّفه ابن عبدالبر الأندلسي وأسهب فيه حول آداب العالم والمتعلّم.
ولكن ما يهمنا أكثر هنا هم العلماء الفلاسفة؛ لأن الحديث عن الفلسفة الإسلامية والتربية، والحقيقة أن أبا حامد الغزالي هو من أهم فلاسفة الإسلام حديثا في هذا الشأن تحديدًا في اعتقادي، ولذلك سنأخذ بعض آرائه كنموذج لفلاسفة الإسلام ودورهم في العلم والتربية.. فقد أطال الغزالي مثلا الحديث عن التربية والتعليم في كتابيه (فاتحة العلوم) و(إحياء علوم الدين) ولعلّي أختزل كلامه عن «المعلّم» في أن الغزالي خصَّ المعلم بقدر وافر من التقديس والإجلال والتبجيل.. كيف لا وقد وضعه في منزلة تلي منزلة الأنبياء مباشرة.
وقد جعل الغزالي (شخصية المعلم) إن صح الوصف على أربعة أنواع، فالمعلم عنده إما أن يكون في درجة الطلب والاكتساب، أو في درجة التحصيل الذي يغنيه عن السؤال، أو في درجة الاستبصار وهو التفكير في المحصَّل والتمتع به.. أو في درجة التبصير وهو أشرف الأحوال.
وللمعلّم عند أبي حامد آداب وشروط وصفات أو خصائص يجب عليه الالتزام بها, من أهمها مثلا وجوب الشفقة على الطلاب والتعامل معهم برفق ولين.. وألا يحرص المعلم كثيرًا على المال مقابل العلم، بل الأفضل والأكمل عنده لو استطاع المعلّم ألا يأخذ أيَّ مقابلٍ مالي على ما يقدمه لطلابه من العلم والمعرفة.. وأن يكون المعلمُ حازمًا في ردع المتعلّم عن سوء الخلق بطريقة الزجر بالتعريض والتلميح قدر الإمكان.. وألا يلزم تلاميذه بآرائه وقناعاته وتوجهاته الفكرية الخاصة، بل يعرضها أمامهم ولا يفرضها عليهم.. وأن يراعي المعلم التفاوت في قدرات المتعلمين، فيتعامل مع كل واحد منهم بما يناسب قدراته على الفهم.. وأن يكون المعلّم قدوة حسنة عاملاً بعلمه مطبقا لأخلاقه الحسنة على أرض الواقع.
أما المتعلّم أو الطالب أو التلميذ فقد منحه الغزاليُّ اهتماماً بالغاً، وجعل له من الآداب والشروط والخصائص والصفات الواجبة عليه الكثير أيضاً كما فعل مع المعلّم.. ومن أبرز ذلك أن الغزاليَّ حث المتعلم على تقديم مهارة النفس على الأخلاق المنحطة والصفات السيئة.. ونصح الغزالي أيضا الطلاب بالحرص على الآخرة وخشية الله والتقوى والزهد والورع والتقليل ما أمكن من الاشتغال بالدنيا.. وحذر الغزالي التلميذ من (التكبر على المعلّم) والتأخر على طلب العلم. كما أوجب على المتعلم الجديد المبتدئ في طلب العلم الابتعاد قدر الإمكان عن الخوض والتعمق في اختلاف الناس وتضارب الآراء..
وبالإضافة إلى ذلك، فقد تطرّق الغزالي إلى نقطة أحبها وأهتمُ بها شخصيًا منذ أن كنتُ صغيرا في المدرسة، وهي أنه نصح الطالب ألا يترك فناً من العلوم المحمودة ولا نوعاً من أنواع المعارف إلا أخذ منه ولو القليل.
وأستسمحكم بالاستطراد هنا قليلا، فأقول:
نصيحة الغزالي السابقة، تلامس جانباً من جوانب فلسفتي الخاصة في المعرفة، وهو ما أعبّر عنه دائمًا بالمقولة الجميلة التي اخترتها ضمن أعظم المقولات تأثيرًا على حياتي المعرفية الشخصية، وهي: «خذ من كل شيء شيئا ومن شيء كل شيء».
والحقيقة أني تصرفتُ بتلك المقولة عبر الزمن عدة تصرفات، فكنتُ أغيّرها كلما تغيرتْ نظرتي للأمور مع تقدم العمر وتراكم التجربة والاطلاع..
فمنذ وقت مبكر من العمر، تصرفتُ بتلك المقولة فحوّلتها من قولهم: «خذ من كل شيء شيئا ومن شيء كل شيء»، إلى قولي: «خذ من كل شيء شيئا ولا تأخذ من شيء كل شيء». فالعمر -في وجهة نظري- أقصر من أخذ كل شيء من شيء، وهذا لا يعني أني ضد التخصص؛ ولكني بالتأكيد ضد المبالغة في التخصص أو الاهتمام بجانب من جوانب العلم والمعرفة، إلى الدرجة أو الحد الذي يجعل الإنسان بعيدًا عن كثير من جوانب المعرفة الأخرى.
ثم مع تقدم العمر والتجربة، غيّرتُ تلك العبارة التي أحببتها كثيرًا وسرتُ عليها وبها في دروب الحياة منذ زمن بعيد، إلى درجة أني أرددها على رفاقي باستمرار مقتنعًا أن جوهرها أساس متين من أسس النجاح في هذه الحياة القصيرة؛ ولكن الإنسان بطبيعته يتغيّر مع تقدم العمر وامتداد التجارب وارتفاع سقف الاطلاع.
لم أحذفها؛ ولكنّي أضفتُ عليها فأصبحتْ صورتها النهائية هكذا: (خذ من كلِّ شيء شيئا ولا تأخذ من شيء كلَّ شيء، وركّز على الشيء الأبرز الذي تحبه، واجعله محورًا يدور حوله كلُّ شيء).. فمما يحسن بمحب المعرفة -عندي- أن يخوض في كل بحارها بتوازن، وأن يركز على ناحية من نواحي العلم أو المعرفة فيجعلها كالكعبة التي تطوف حولها كل عناصر قوته وعناصر شخصيته وعناصر أحلامه وقدراته وطموحاته الأخرى.. أي أن يختار طالب العلم –مع خوضه في بحار المعرفة المختلفة- نقطة أو مجالاً جيدًا مناسبًا له ليكون نقطة انطلاقه الأساسية، ومركزًا لتكوين ذاته وتجاوز عقباته وصنع انتصاراته ثم ينطلق منها إلى كلِّ شيء.
نعود إلى بقية وصايا الغزالي للمتعلمين والطلاب، فبالإضافة إلى كل ما سبق، حث الغزالي الطالب أن لا يخوض في فن حتى يستوفي الفن الذي قبله، وحثه أيضاً أن يهتم بباطنه وليس بظاهره فقط، وذلك بأن يجمّل باطنه بالفضيلة.
والخلاصة أن (فلسفة التربية) امتازتْ في الإسلام بصفات أخرى غير ما ذكر، فهناك شبه اتفاق مثلا بين كثير من مفكري الإسلام وعلمائه وفلاسفته على مبادئ مهمة في التربية، كالقدوة الحسنة، والموعظة والنصح، والثواب والعقاب، وأهمية المحاورة والمناقشة في التربية والتعليم..
بالإضافة إلى اهتمام مفكري المسلمين وعلمائهم بربط النظر والعلم بالعمل والتطبيق دائمًا وأبدًا.. واهتمامهم بمشاعر المتعلمين واستخدام أساليب التحفيز والثناء والتشجيع في المدارس.. واهتمامهم بالمجتمع والعمل الجماعي، مستندين في ذلك على نصوص من قبيل قول النبي محمد عليه السلام: «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضا، وشبّك بين أصابعه». وقوله: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر».
- وائل القاسم