هو وحيدها.. لا ترى من جمال الدنيا إلا صورته.. ولا تسمع من ضجيجها إلا صوته.. قامت على تربيته بمفردها.. بعد أن طلقها والده وتخلى عنها وعنه.. لم تكن شهادتها الدراسية لتؤهلها لوظيفة جيدة أو حتى متوسطة.. كي تسد عوزها هي وابنها.. وبعد بحث وتوصيات من هنا وهناك.. اتفقت هي وأصحاب مطعم معروف.. أن تعد لهم أصنافاً من الطعام الشعبي يبتاعونه منها.. بمبلغ زهيد بالكاد يكفيهما.. كبر الطفل وصار شاباً.. فقرر أن يستلم الأحمال عن والدته ويشتغل.. فقد آن لها أن تستريح.. لكنها رفضت.. فدراسته ونجاحه بتفوق هو حلمها وأملها فيه.. مضت الأيام.. والسنون تمضي.. والأم تصطلي بنار فرنها.. تعمل ليل نهار في سبيل لقمة عيش كريمة.. أنهى الشاب دراسته بتفوق باهر.. تمكن به - وبعد الله - من الحصول على وظيفة مرموقة دخلها جيد جداً.. أعاد بها البسمة إلى شفاه أمه الحبيبة.. ونفض عنها غبار العناء والتعب.. أراد أن يتزوج.. ففرحت أمه.. بل لم تسعها الدنيا من الفرح.. لكن كل فتاة يخطبها تشترط منزلاً لها وبدون أمه!! تعجب الشاب من ناس يشترطون تخليه عن أمه.. وما أقساهم وهم يعلمون أنه وحيدها.. ولا أحد لها غيره.. أخذ الشاب يفكر.. ويزور أرجاء ذاكرته ويتوقف عند محطاتها القريبة والبعيدة.. وصور أمه ومعاناتها وآلامها.. تتراءى أمام مخيلته.. هذه أمي.. التي حملتني وهناً على وهن.. ووضعتني وهي تشارف على الموت.. هذه أمي التي آوتني.. وروتني من ظمأ.. وأطعمتني من جوع.. هذه أمي التي ضحت من أجلي بكل شيء.. بادئة بأجمل سنينها وزهرة شبابها.. يوم رفضت الأزواج.. لتبقى لي وحدي.. هذه أمي.. التي عانت وتألمت.. وما أكثر ما رأيت دموعها تمزق أجفانها.. وإن سألتها عن سببها تخفيه وتقول.. إنه البصل.. كلما قطعته سربل دموعي.. حتى كرهته.. لأنه تجرأ على دموع أمي.. هذه أمي.. التي لا تأكل حتى آكل أنا.. تضع اللقمة بيدها في فمي وأنا صغير.. وتوشك على ذلك وأنا كبير.. كلما قلت لها شبعت يا أمي.. ملأت طبقي مرة ثانية.. ودت لو أكلت قلبها.. هذه أمي.. التي ما كنت أنام سنين طويلة.. إلا بين ذراعيها.. ولا أنام إلا بعد أن تحكي لي حكاية.. وما أكثر ما نامت والحكاية ما انتهت.. فأعمد إلى فتح جفنيها.. (أمي.. لا تنامي أكملي).. هذه أمي.. التي حرمت نفسها الكثير مما تقتنيه النساء من ألبسة وأدوات زينة وغيرها.. حتى توفر قيمتها لي.. هذه أمي.. التي لا ولن أرضى بمن تشترط بُعدي عنها حليلة لي.حتى ولو لم أتزوج أبداً.. وهنا يا أحبة.. نتوقف عند هذه الظاهرة.. ونتعجب منها أيضاً.. ونحن المسلمون العارفون بتشريعات ديننا الحنيف وأعظمها حقوق الوالدين.. أسأل الله أن يرزقنا الصلاح والهدى.. وأن يجعلنا من المتقين.