هي أخية حبيبة قريبة من روحي.. رزقها الله بطفل ذي كليتين متعطلتين لا تعملان.. ومن يومه الأول بدأت معاناته مع الغسيل الدموي.. والأم لا تسألوا عن حالها.. الأم التي تحمل بين جنبيها قلباً يوشك نبضه أن يتوقف مع كل صرخة ألم لطفلها.. طفلها الذي حملته بين أحشائها.. يقوى بضعفها ويتغذى على دمها.. طفلها الذي رسمت له أجمل صورة لأجمل طفل.. وعقدت عليه الآمال..
هذا الطفل الذي ما كاد يرى النور حتى بدأت آلامه.. وبدأت معها معاناة والدته.. فكم تألمت لحاله.. وكم ذرفت من الدموع وهي تقف بأسى أمام سريره.. والمحاليل والأجهزة تحيط به..
كانت تسرق بعضاً من وقتها الذي تلازمه فيه.. لتصلي وتدعو ربها المعافي الأعظم الأرحم.. تطلبه شفاءً عاجلاً لفلذة كبدها..
وبعد عامٍ كاملٍ مر ثقيلاً مرهقاً لها ولوالده ولكل أحبته.. بعد صبر ما شابه يأس من رحمة الله.. قرر أطباؤه زراعة كلية له للاستغناء عن الغسيل الدموي.. وهذا هو الحل الأفضل له..
فكر والداه في السفر به إلى خارج البلاد.. وشراء كلية له وزراعتها هناك.. لكن هذا الأمر قد يطول بهم.. ونجاح العملية في الخارج غير مضمون.. إذ إن بعض المراكز هناك غير مؤهلة هدفها الأول الربح المادي.. وهذا يؤدي إلى مضاعفات غير مقبولة.. وأحياناً تكون خطيرة على المريض..
إذاً فالحل الأسلم كما رأوه.. أن تكون الكلية من أحد أفراد عائلته..
بدأت الفحوصات على أمه وأبيه وإخوته.. فكانت كلية الأم والابن الأكبر هي الأنسب له.. لكن الأم وبكل معاني الأمومة.. رفضت أن يكون أخوه هو المتبرع.. خافت عليه.. فهو أيضاً فلذة كبدها.. وقطعة من روحها.. أما هي فعلى أتم الاستعداد للتضحية.. ليس فقط بكليتها.. بل بكل حياتها لقلوب هي مضغ من قلبها..
فكانت هي المتبرعة.. راسمة بذلك أجمل صورة من صور الأمومة الحانية..
وعلى أرض الوطن.. وفي واحد من مستشفياته.. وبأيد سعودية ماهرة.. تمت العملية لها ولطفلها.. وتكللت بفضل من الله بالنجاح..
تقول والدته إن العملية تمت بسرية تامة.. حتى لا يعلم أحد من أهلي فلربما تدخل في ذلك وأعاق أمرنا.. كلهم يرفضون قراري.. وكلهم خافوا عليّ.. أهمهم شأني أنا أكثر من شأنه.. يرون أن ينتظر دوره في الحصول عليها إلى ما شاء الله.. لكن هيهات لأم ترى مهجة فؤادها يذبل أمام عينيها وهي تنتظر..
وتقول.. والله إنني الآن لأسعد ما أكون وأنا أقدم لصغيري شيئاً.. ينقذه -بعد الله- من الموت..
ونحن نحمد الله على عافيته.. وندعو له بالشفاء التام.. وأن يعظم الأجر لوالدته.. إنه سميع مجيب.
أخوتي الكرام.. إن التبرع بالكلى من الأعمال الجليلة التي ينال صاحبها الأجر العظيم بإذن الله.. إذ إن بها إحياء لنفس تشارف على الموت.. قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}.. ألبسنا الله وإياكم ثياب الصحة والعافية.. وجميع المسلمين.