أكدت عدد من الدراسات العالمية أن ما لا يقل عن 33% من أفراد المجتمع قد يصابون بمرض نفسي في فترة ما من حياتهم. وهذه الأمراض النفسية، بحسب دراسة عالمية رصينة، أجريت حديثاً في 187 دولة، تحتل المرتبة الأولى ضمن قائمة الأمراض -غير المميتة- الأكثر عبئًا وتعطيلاً لأفراد المجتمع عن الإنتاج، وذلك بنسبة 23 %.
وأكثر ما يؤثر سلباً على هؤلاء المرضى، ضعف الخدمات الصحية النفسية المتوفرة لهم، وهذا قد فصلته في مقال سابق، وكذلك عدم معرفتهم بحقوقهم على مقدمي الرعاية الصحية النفسية. وكثيراً ما تطرح أسئلة حول زيارة الطبيب النفسي، وخصوصاً الزيارة الأولى للعيادة النفسية، ولذا سألخص فيما يلي ما يهم القارئ الكريم على صيغة سؤال وجواب:
س) ما هو هدف الزيارة الأولى للعيادة النفسية؟
يهدف الطبيب النفسي لمساعدة المريض للتخلص من معاناته النفسية؛ وذلك عبر تشخيص المرض النفسي الذي يعاني منه حالياً، واستكشاف تأثيراته السلبية على أدائه لوظائفه الحياتية. ويحاول كذلك فهم شخصية هذا المريض، ولماذا أصيب بهذا المرض النفسي، ولماذا أصيب به الآن بالذات. كما يحتاج الطبيب لتصميم خطة علاجية متكاملة ذات أبعاد بيولوجية ونفسية واجتماعية وروحية، والسعي لتنفيذها مع فريق الصحة النفسية ككل بالتعاون مع المريض وأهله. وكل ما سبق لا يمكن تحقيقه دون بناء علاقة علاجية مهنية فعالة مع المريض، يشعر فيها المريض، بأن هذا الطبيب قد فهم معاناته، كما يثق بقدرته على مساعدته لتجاوزها.
س) كم الوقت المتوقع للزيارة الأولى وما بعدها؟
مما يحز في القلب، أن عدداً ليس بالقليل من الأطباء النفسيين في بلادي، لا يقضون وقتاً كافياً مع المريض وخصوصاً في الزيارة الأولى؛ وهي الزيارة الأهم للتشخيص الدقيق ورسم الخطة العلاجية. وهذا الأمر، يشبه فعل طبيب جراح، اكتفى بشق موضع العملية دون استئصال موضع الداء ولا خياطة للجرح بعدها، متذرعاً بقصر الوقت!!!. وقد اتفقت التوصيات العالمية على أن مدة الزيارة الأولى للطبيب النفسي هي 45 دقيقة، ولا يُقبل بحال من الأحوال أن تقل عن نصف ساعة، مهما بلغ الطبيب علماً وخبرة. أما لو كان المريض طفلاً، فمدتها عادة ساعة ونصف، ولا تقل بحال عن ساعة كاملة. طبعاً، لكل قاعدة شواذ، فيستثنى من ذلك بعض حالات الطوارئ والعناية المركزة..الخ، وأحياناً يحتاج الطبيب لعدة زيارات، للوصول للتشخيص الدقيق.
ولأن مدة الزيارة الأولى طويلة نسبياً، مقارنة بعيادات الأطباء الاستشاريين الآخرين غير النفسيين، فتتراوح متوسط أسعارها في أوروبا وأمريكا، ما بين 500 إلى ألف ريال تقريباً، لكن في المقابل، ينال المرضى حقهم وافياً في التشخيص الصحيح، ورسم الخطة العلاجية الناجعة.
وأما زيارات المتابعة بعد الزيارة الأولى، فتتراوح مدتها ما بين 15 إلى 45 دقيقة حسب نوعها، إن كانت متابعة للأدوية فقط، أو تشمل علاجاً بالجلسات النفسية.
س) ما هي مكونات المقابلة الأولى؟
لتحقيق الأهداف المذكورة في السؤال الأول، يحتاج الطبيب النفسي لاستقصاء ما يلي:
- الخصائص الديموغرافية والاجتماعية للمريض.
- التاريخ المفصل للحالة المرضية النفسية الحالية.
- التاريخ المرضي النفسي السابق والأمراض الجسدية السابقة والحالية، والأدوية التي يتناولها المريض بشتى أنواعها.
- التاريخ العائلي المفصل بما في ذلك الإصابة بأية بأمراض نفسية، وطبيعة علاقة المريض بأفراد عائلته.
- التاريخ الشخصي: بدءاً من ولادته مرورا بدراسته وتاريخه الوظيفي، وانتهاء بعلاقته بزوجته وأطفاله... مع استقصاء جوانب شخصيته السابقة للإصابة بالمرض، وكيفية تكيفه مع الضغوط بما في ذلك استعمال التدخين والمواد المحظورة...الخ
- إجراء فحص جسدي وعقلي ومعرفي، يشمل كل ما يحتاج إليه.
- مراجعة فحوصات المريض وطلب تحاليل وأشعة إضافية حسب حالة المريض الإكلينيكية.
- رسم خطة علاجية متكاملة بالتعاون مع المريض.
س) ما هو مقدار الكشف الجسدي المتوقع من الطبيب النفسي، خصوصاً عند اختلاف الجنس بين المريض والطبيب؟
الطبيب النفسي كغيره من الأطباء بكافة تخصصاتهم مُطالب بأمرين:
- الاقتصار في الكشف على جسد المريض، على ما يُحتاج إليه، كل حالة بحسبها. فمثلاً، لا يُتوقع غالباً من جراح العظام أن يكشف على الصدر، لمريضة مصابة فقط بالتواء في الكاحل. وهكذا.
- احترام قيم المريض وثقافته، ومراعاة ذلك قدر الإمكان.
وفي المجمل، لا يحتاج الطبيب النفسي غالباً لرؤية وجه المريضة المنقبة، وذلك في معظم الحالات العصابية البسيطة كحالات القلق والرهاب والاكتئاب..الخ. بينما قد يحتاج أحياناً لكشف الوجه، وفحوصات جسدية أخرى، وذلك لتشخيص بعض الحالات الذهانية ومتابعة الأعراض الجانبية لبعض الأدوية.
س) ما هي أنواع العلاجات النفسية المتوفرة والمثبتة علمياً؟
أ) الأدوية.
ب) الجلسات النفسية.
ج) العلاج بأجهزة التحفيز الدماغي مثل: العلاج بالجلسات الكهربائية (ECT)، والتحفيز المغناطيسي المتكرر عبر الجمجمة (rTMS).
وحق للمريض، أن يعرف تفاصيل الخيارات المتوفرة مما سبق، حسب التوصيات الإكلينيكية العالمية لكل مرض بعينه، ويعرف الأعراض الجانبية لها، وأسعارها التقريبية مسبقاً. ثم يختار منها ما يشاء، بالمشاورة مع طبيبه.
ومن الأخطاء الشائعة في هذا السياق، صرف أدوية كثيرة منذ الزيارة الأولى دون برهان علمي. فالأصل هو البدء بدواء واحد، وجرعات صغيرة متصاعدة، ثم متابعة استجابة المريض، والتصرف تبعاً لذلك.
ومن الأخطاء، استخدام بعض أنواع العلاج النفسي إما غير المثبتة علمياً على الإطلاق أو المثبتة علمياً فقط في علاج بعض وليس كل الأمراض النفسية. ومن الأخطاء، حضور دورات تطوير الذات، لغرض العلاج من أمراض نفسية. فلم يثبت علمياً، أن هذه الدورات تعالج أي مرض نفسي. وإنما تنحصر فائدتها في أمرين فقط هما، تثقيف المرضى وأهاليهم بأمور الصحة النفسية والأمراض النفسية، وكذلك تدريب الأصحاء على مهارات الحياة كإدارة الوقت والمال..الخ.
أما العلاج بأجهزة التحفيز الدماغي، ففيه للأسف استغلال مادي للمرضى باستعمال أجهزة لم تثبت فعاليتها، وبأسعار مبالغ بها. والمثبت منها علمياً حالياً، العلاج بالجلسات الكهربائية (ECT)، والتحفيز المغناطيسي المتكرر عبر الجمجمة (rTMS)، وما عداهما من طرق، إما تُستخدم فقط لعلاج الحالات المستعصية للأدوية، وفي مراكز طبية متخصصة مثل تحفيز العصب الحائر (VNS) أو التحفيز العميق للدماغ (DBS)، أو أنها ما زالت في طور البحث العلمي ولم تثبت فعاليتها في علاج أمراض نفسية محددة حتى الآن.
والله من وراء القصد
استشاري الطب النفسي والطب النفسي الجسدي - أستاذ مشارك - كلية الطب - جامعة الملك سعود