معروفة هي نقاط الاعتراض والتفنيد التي يوجهها الكاتب والمفكر الفرنسي مونتينيه إلى تعليم يخص الذاكرة بالحصة الكبرى، فهو يقول:
((إنا لا نعمل إلا على حشو الذاكرة، وندع الإدراك والشعور خاويين)). لكنه لم يرفض قط وجوب تغذية هذا الإدراك بالمعارف المنتقاة بعناية:
((يطوف النحل على الزهور هنا وهناك، ويصنع منها العسل، وهو عسله الخاص به: ولم يعد صعتراً ولا مردقوشاً)).
إن المسير نحو النجاح، لا بد له من استخدام الفكر استخداماً عقلانياً.
وخيط الهداية: هو التنظيم والمنطق. فما أغزر الفائدة منهما للرؤية الواضحة، وللتمكن من الاهتداء إليهما! إن الوصول السهل والسريع إلى ما يبحث المرء عنه ضمان للفاعلية. والتفكير المنهجي المنظم، في عالم فوضوي، يختلط فيه الحابل بالنابل، ويتصف بغزارة فائقة من المعلومات والإغراءات، هو الرابح أكثر من أي وقت مضى. والعقلانية اليومية تبدأ في المدرسة بترتيب الدرج في الصف وتتواصل في المكتب... وتنزل إلى الدقائق الصغيرة للحياة. ففي القبو مثلاً، يحدث اختبار حاسم: هل يمكنك العثور بسهولة على شيء ضروري، أو أن تضع يدك على المفتاح المطلوب من غير أن تضيع وقتك، وتخرج منهك الأعصاب؟
فالأسلوب والتنظيم والمنطق هي العوامل التي تضمن أفضل سهولة في مواجهة مختلف الضغوط التي يفرضها الزمن والأحداث. والأشخاص المعروفون بتنظيمهم، هم أول السائرين في طريق النجاح. ذلك أن الذاكرة، كي تعمل جيداً وتصبح ورقة رابحة، تحتاج إلى عقلانية مكملة. وبدقة أكثر، تتطلب بذل جهد في التصنيف، والتسلسل والتدرج.
وكذلك الحال أيضاً بخصوص طريقة ترتيب المكتبة وأي شيء آخر في المنزل. ويمكن، بالتأكيد، أن يصر المرء على خلط الحابل بالنابل ثم يفتخر بهذا بعد ذلك.
وبعضهم، في الحقيقة، قد يعثرون في هذا الركام على ضالتهم المنشودة، والفضل في هذا لذاكرتهم، لكن يا له من جهد يبذلونه وتحد يواجهونه! ومن الثابت أيضاً أن الكتب كقوارير المؤونة، يمكن ترتيبها على نحو متناسق مفيد حسب اختيار صاحبها. فهو الذي يفرض منطقه، وهو ينسج خيوط شبكته، وهي من مفاتيح الذاكرة- النجاح.
فثمة مواد يمكن ترتيبها حسب السنين (القدم)، أو النوع، أو تاريخ صنعها، أو نوعية خيط الذكريات المرتبط بها. وتصنف الكتب حسب مواضيعها وموادها، وحسب مؤلفيها، أو في مجموعات حسب استخداماتها الخاصة، أو بكل بساطة، حسب موقعها في مجموع الرفوف المخصصة لشراء الكتب الجديدة.
إن استثمار الوقت أو استخدامه جيداً، شرط ضروري للنجاح. فالمعروف جيداً أن المرء لا يرى الوقت يمر في أثناء الحديث مع بعض الناس
((الثرثارين))، إنهم يسيئون إلى أهدافنا وغاياتنا، وإذا ما استرسلنا في معايشتهم، فنساهم غالباً في ضياعنا.
والعلاج هو أن نجبر بعد نهاية أي حديث ثنائي على تسجيل العناصر الجديدة المكتسبة وترقيمها: معلومات، قرارات، مشاريع، ملاحظات.
فعندما تدوم مقابلة ما ساعة من الزمن، فإن ما يتبادل فيها من كلمات نحو 9000 كلمة، أي نحو 30 صفحة مكتوبة. فماذا يبقى منها مما يستحق التسجيل؟ أحياناً بضع جمل أو كلمات أو أرقام. وهذه القدرة على الاختيار بعد تصفية المعلومات، أمر جوهري ينبغي التقيد به: لأنه ما من ذاكرة فعالة من غير تمييز انتقائي.