قبل أكثر من 40 سنة عندما جلست على مقعدي في القطار المتجه من الدمام إلى بقيق كنت أستشعر وكأنني في سفينة الفضاء الأمريكية من جميع زوايا التقنية والراحة والفخر.
رحلت بي الأيام وغبت عن قطار الأحلام الذي لا يكاد يمر يوم إلا وأسمع صوت صفاراته وأسمع بمشاريع تطويره. وقبل ثماني سنوات عادت بي الأيام لأضع قدمي في القطار المتجه إلى الرياض وأحلامي تسابقني لأرسم صورة سفينة الفضاء الجديدة بعد أكثر من ثلاثة عقود تغيرت فيها دول من السكن في العشش والعشوائيات إلى السكن في ناطحات السحاب. نظرت حولي وأنا أتفقد الهيئة والصورة فتمنيت أن أبقى في تلك الصورة القديمة، وأحسست أني أصبْتُ ذاكرتي بجرح كبير لم أجد سفينة الفضاء بقدر أني أحسست أني عدت للماضي فلم يعد القطار الذي توقف به الزمن في محطة المتحف التاريخي يصلح لأن يحمل حلمي المستقبلي الذي أرمقه في عيون أبنائي.
وبالأمس (الخميس الماضي) ركبت القطار بضغط من أبنائي ورغبتهم في استكشاف أحلامهم من الدمام إلى الرياض في قطار التاسعة صباحاً متأملاً أن لا أخذلهم وأنا أروي لهم قصة القطار الجديد الذي تزين صورته محطة القطار وأخباره ملأت الفضاء ومحطات الأخبار.. دخلت معهم عربة الرحاب وهم يسألونني هل: هذا القطار الجديد؟؟
رغم أن هناك أرقاماً للمقاعد على التذاكر الورقية الكبيرة إلا أن هذه الأرقام لا تسمح لك بالحفاظ على مقاعدك لأن موظف القطار أعلن أن يجلس كل راكب في المكان الذي يريد. كنت وأسرتي محظوظين لأننا ركبنا مبكرين فاخترت طاولة لأربعة مقاعد، أما الذين جاؤوا بعد ذلك فلم يجدوا لهم مكاناً، وقال لهم الموظف أن يجلسوا في العربة الثانية وسوف يدفعون لهم فرق التذاكر. بكل هذه البساطة لا تستطيع أن تتقدم باحتجاج لأن القطار سيتحرك خلال دقائق.
لن أتحدث عن عربة الدرجة الأولى لأنني أعتبر أنها تعمل من التاريخ وليس بها شيء يمكن أن يثير أبنائي وتطلعاتهم غير أني وعدتهم أننا سنعود يوم السبت من الرياض في قطار الساعة 5.45 مساءً وهو جديد وسيرون صورة مغايرة وحديثة يستحق أن يفخروا بها.
يوم السبت تفاجأنا ونحن نمشي نحو القطار أنه لم يكن قطار الطلقة ولا المغناطيس ولا قطار الهواء. صاح أبنائي: إنه القديم! ولكننا حينما ركبنا عربة الرحاب كانت ممتلئة وكانت عندي ثقة بأننا سنجد أرقام مقاعدنا جاهزة لنا، ولكن كما أشفقت في رحلة الذهاب على من لم يجدوا مقاعد لهم بالأمس هناك من أشفق عليَّ وأنا وعدد كبير ممن أرسلنا موظف المقطورة إلى عربة الدرجة الثانية وأردف: إننا سوف نعطيكم فرق السعر!
أصوات النساء تتعالى يطالبن بمقاعدهن ولا أحد يستطيع أن يساعدهن أو يتواصل مع مسؤول يستطيع أن يقنعهن بأنهن يجب أن يقبلن بهذا الوضع. أما المرأة التي بجانبنا فقد قالت إنها طلبت تذكرة درجة ثانية في المحطة ولكن الموظف أفادها أنه يجب أن تقطع تذكرة الدرجة الأولى مما اضطرها الذهاب إلى الصراف الآلي لكي تسحب النقود وتعود، والآن بعد أن ركبت حولوها إلى الدرجة الثانية. وقالت قبل أسبوعين ألغيت الرحلة الأخيرة من الرياض إلى الأحساء ورفضت محطة الرياض إحضار باصات لهم لنقلهم إلى الأحساء، فهي وغيرها من النساء ليس لديهن خيار سوى أنهن أستأجرن سيارة أجرة بمبلغ 500 ريال للأحساء.
في هذه اللحظة توقف القطار في الأحساء ولن أستطيع أن أكمل هذه الكلمات لأن صوت صراخ الطفلة التي كانت تجلس بجانبنا يدوي في المحطة بعد أن أُغلق عليها باب العربة.
د. سعيد بن أحمد العويس - عميد كلية التصاميم بجامعة الدمام