آمنت أكثر من أي وقت مضى، أن الحب أساس الأمن والسلام، وبعد حادثتي القديح ومسجد العنود أدركت أن الكراهية والبغضاء تصنع المزيد من الأذى، لقد عرفنا جميعاً أن هذا الوطن مستهدف في أمنه وشبابه وأن الإرهاب لا دين له، وأن القوى الخارجية والأيادي العابثة هي من حركت وغررت بعقول من قاموا بسفك الدماء وارتضوا أن يتناثروا أشلاء في مقابل الوعيد بالحور العين.
فكرت في تلك الجرائم وعرفت أن الأيادي العابثة من خارج هذه البلاد قد وجدت أرضاً خصبة لزراعة الفتنة في عقول أولئك الشباب وجرهم لخلايا الإرهاب، فالطريقة الإقصائية التي نتعامل بها والتي جعلتنا نفقد حق الاختيار ونتبع الآراء بدلاً من أن نملكها ونبحث عن التشابه وننبذ الاختلاف رغم أن الاختلاف ثراء، ونفصل إنسانيتنا على حسب الدين واللون والمعتقد والمذهب بدلاً من أن نعيشها بكامل معانيها ومبادئها، هو ما جعل عقول أولئك المغرر بهم خصبة لتتلقى التعليمات الإرهابية الجنائية التي أودت بحياة الأبرياء.
ولأن حادثتي القديح ومسجد العنود بالدمام قد سبقها عدة حوادث تمثلت في قتل عدد من رجال الأمن فإني بدأت أتساءل كيف يفكر هؤلاء ومن أين جاءوا ؟ خاصة وأنه بعد بيان وزارة الداخلية قد ثبت أن اثنين من المتورطين في جريمة قتل أحد رجال الأمن قد شوهدا في أحد حفلات الزفاف، وهذا ما يدعو للتفكير في أن هؤلاء الإرهابيين قد يكونون بيننا كخلايا نائمة من حيث لا نشعر أو نحتسب، وهنا يكمن الخطر الحقيقي.
قرأتُ عن الجريمة في بعض كتب علم النفس الجنائي ومنها كتاب للدكتور محمد شحاته ربيع وآخرون ووجدت بعض المفاهيم التي تفسر بعض سلوكيات من ارتكبوا تلك الجرائم البشعة.
تُعرف الجريمة في علم النفس الجنائي على أنها « سلوك ينتهك القواعد الأخلاقية التي وضعت لها الجماعة جزاءات سلبية تحمل صفة الرسمية « أو هي « السلوك الذي تحرمه الدولة لما يترتب عليه من ضرر على المجتمع، والذي تتدخل لمنعه بعقاب مرتكبيه».
أما المجرم فهو « الفرد الذي ينتهك القوانين والقواعد الجنائية في مجتمع ما مع سبق الإصرار، أو هو الشخص الذي يرتكب فعلاً غير اجتماعي سواء كان بقصد ارتكاب جريمة أم لا. ويشمل هذا المعنى كل من ينتهك الأعراف أو يتصرف على نحو يخالف المعايير الاجتماعية».
أما الاستجابة والسلوك فتعرف بما يلي « الاستجابة هي كل ما يصدر عن الشخص من أنواع السلوك مادية أو رمزية يميل عن طريقها إلى تحقيق إمكانياته أو خفض توتراته التي تهدد تكامله ووحدته».
ولأن ما حدث من تفجير في القديح ومسجد العنود بالدمام يعد جريمة منظمة تم التخطيط لها فإني سأعرج أيضاً على تعريف علم النفس الجنائي للجريمة المنظمة حيث تعرف بأنها « السلوك الإجرامي المضاد للمجتمع الذي يقوم به أعضاء تنظيم إجرامي معين، يمارس أنشطة خارجة على القانون، ويتم في إطار هذه التنظيمات الإجرامية تقسيم العمل، وتحديد الأدوار، ووضع تسلسل للمكانة والسلطة، ويكون بهذه التنظيمات نسق للمعايير وولاء تنظيمي واضح».
ومن خلال تلك المفاهيم يتضح أن مفهوم الجريمة ينقسم إلى : جريمة ومجرم وسلوك إجرامي، والسلوك الإجرامي هنا لا ينشأ بين يوم وليلة، فلم يولد المجرم مجرماً، ولن يقبل العقل الإقدام على جريمة ما ويحث حواس الجسد عليها لارتكابها دون أن يكون هناك دوافع حقيقية أو طريقة تنشئة تسببت في نشوء مثل تلك السلوكيات وجنوح العقل للتفكير بتلك الأفكار البائسة التي صورت أن القتل هو الطريق إلى الجنة!
لقد نشأ الكثير منا في بيئة إقصائية، وتلقى التعليم بطريقة التلقين، حتى غاب دور العقل في التفكير والتحليل والتقصي والبحث عن الحقائق والاستنتاج، وهذا ما جعل كثيراً من البسطاء يفتقدون لأبسط حرياتهم وهي حرية التفكير واتخاذ القرار وإبداء الرأي، فأصبحوا تابعين يتلقون الآراء من هنا وهناك من باعة الوهم ومدّعي الدين، ولنا في مسائل الحث على الجهاد في سوريا وليبيا وغيرها من الدول خير مثال، حيث ظل متصدروا المنابر يصرخون لترق قلوب الضعفاء منادين بالجهاد بينما يغردون هم عبر وسائل التواصل الاجتماعي ويشجبون ويستنكرون، كما يقول الإخوة المصريون في المثل الشعبي « يقتل القتيل ويمشي في جنازته «!
يقول كارل ألبريخت عن فهم وتشكيل قواعد الارتباط «يشتمل أي تواصل بين البشر بشكل عام مجموعة من التوقعات المشتركة حول الكيفية التي يمكن أن يتصرف بها أطراف هذا التواصل، وتسمى تلك التوقعات قواعد الارتباط، فعندما يعرف كل طرف تلك القواعد المقبولة بوجه عام ويلتزم بها يتم التواصل بصورة ودية ناجحة أما إذا خالف أحد الأطراف هذه القواعد من خلال التصرف بشكل غير مقبول فعندها تنشأ صراعات خطيرة».
قواعد الارتباط لدينا والتي نشأنا عليها لم تكن على أساس التحاب والتآخي مع من يختلف معنا، بل إنه ظل الاختلاف في الرأي الذي يفترض به أن لا يفسد للود قضية يفسد كل قضايا الود وأحياناً يقطع صلات الأرحام، فنحن نعاني من مشكلة في تقبل من يختلف عنا من ناحية الرأي أو الشكل أو العقيدة أو المذهب أو الجنسية أو حتى في أبسط الأمور كالهوايات والحريات الشخصية، لا نستطيع أن نحتمل اختلافهم، ونشعر بأنه من واجبنا مناصحتهم وجلبهم لصفنا أو التباغض معهم، وقد يلحظ هذا حتى في التعصب الكروي والقبلي، وهذا ما يجعل البيئة قابلة للانفجار، فالفاعل هنا لم يبذل مجهوداً لإقناع الشباب وضمهم لخليته، بل إنه جاء ليحصد ثمار ما زرعناه لسنوات بطريقة التعامل الإقصائية بين أفراد المجتمع مع بعضهم البعض.
يقول الأخصائي النفسي دانييل جوتليب في رسائله لحفيده سام « إن الكراهية والبغضاء موجودان حولنا منذ أن كنا نعيش في الكهوف، وإنني على يقين من أنهما لن يختفيا في الفترة التي نعيش فيها، لكن ربما نصبح أفضل إذا تعلمنا أكثر عن مصدريهما - على الأقل كبداية».
ولعلنا إن عدنا إلى مصدر الكراهية والبغضاء لوجدنا أن متصدري المنابر في الخطابات الدينية الاجتماعية لدى السنة والشيعة ظلوا ومازالوا يرشقون الناس بتلك الألفاظ الرنانة ضد الطائفة الأخرى ويحقنون عقولهم بما يزيدهم كراهية وعنصرية ويجعلون ذلك يجري في دمائهم. فماذا يتصور أولئك من الناس حين يلقون في آذانهم كلمات كالروافض والنواصب، ضاربين بكل مشاريع التنمية والتآخي والاندماج وتحقيق اللحمة الوطنية عرض الحائط وذلك طبعاً خدمة لمصالحهم ليستمروا على تلك المنابر متسيدين للمشهد الديني الاجتماعي في البلاد وهم يعرفون أن تلك الكراهية التي زرعوها لن تبقى حبيسة القلوب والمشاعر للأبد.
واستطرد دانييل جوتليب قائلاً في رسالته «غالباً تبدأ الغيرة عند الشعور بعدم الأمان، وحتى نزيل هذا الإحساس ننجذب نحو الناس الذين يبدون ويفكرون ويتصرفون مثلنا، وتجري الأمور بشكل عام بشكل طيب، إلا إذا ظللنا لا نشعر بالأمان عندئذٍ قد نقنع أنفسنا بأننا فوق الجماعات الأخرى، وقد نعتقد حتى أن الآخرين في الجماعات الأخرى أدنى منا بشكل ما».
أليس صحيحاً أن إنسانيتنا قد تناقصت كثيراً ودخلت في لعبة التصنيفات البشرية وبدأت تظهر وتخفت مع من يناسبنا ولا يناسبنا؟ أليس ما يجري هو أن أهل السنة يشعرون بأن الشيعة على خطأ وأنهم يخالفون الدين وأن الشيعة أيضاً يشعرون بذات الشيء تجاه السنة ؟ بل إن فرقة من أهل السنة لا يرون كل أهل السنة على حق كما أن فرقة من الشيعة لا يرون كل الشيعة على حق، لقد بدأنا نتجزأ ونصبح فرقاً داخل الفرقة، فلم يعد كافياً أن تقول إنك سعودي لتعرف بهويتك، بل عليك أن تحدد ديانتك، وحين تحدد بأنك مسلم فعليك تبيان مذهبك، وهكذا الشيء نفسه في عائلتك وقبيلتك. لقد أصبح الحب مشروطاً والإنسانية مشروطة بالتشابه الديني والعرقي وإلى ما لا نهاية! وهذا أمر مؤسف..!
لقد تجزأت الإنسانية حتى أصبح الإنسان متعدد الهويات وكثير الولاءات، فبين الهوية والولاء فجوة، فهناك هوية وطنية وولاء طائفي وهناك هوية طائفية وولاء وطني وهناك الاثنان معاً وهناك من لا يحمل أياً منهم، فلم يعد الفرد يعرف أين يسير وأي طريق عليه أن يختار لينجو بنفسه!
أعود لرسالة دانييل جوتليب حين قال: «لكن على جانبي أي قولبة أو صراع أو حرب، فإننا جميعاً بشر. نحن نرغب في الأشياء نفسها، بصرف النظر عن اختلافاتنا الظاهرية. جميعنا يريد السلام والأمن الداخلي والخارجي والفرصة ليمنح وينال الحب « ثم استطرد قائلاً : « سافرت إلى إحدى مناطق النزاع في العالم - أرض تموج بالكراهية العرقية والدينية للدول. جماعات كثيرة تهاجم جماعات مختلفة لأسباب مختلفة. لا أتصور كيف يمكن أن يشعر أحد بالأمان هناك. لأعوام ظللت أقرأ عن الأخطار والهجمات والثأر في تلك المنطقة، لهذا توقعت أن أرى خوفاً رهيباً في هذه المنطقة لكن بينما كنت هناك علمت شيئاً جديداً عن شعور الناس في هذه المنطقة « وكان يقصد هنا رائحة السلام ورغبتهم في الوحدة حيث إنه حين سأل أحد المذيعين التلفزيونيين الذي يقدم برنامجه منذ 25 عاماً عن ماذا يريد أن يتحدث الناس فأخبره أنهم يريدون الحديث عن الوحدة، رغم كل ما يعانونه من الفقر وازدياد نسبة الأثرياء المتكسبين من فقر وحروب أولئك الجماعات إلا أنهم يريدون الحديث عن الوحدة بما يندرج تحتها من معاني الحب والسلام.
لقد قلت بأن الحب هو أساس الأمن والسلام وهو أساس كل الدوافع الإنسانية وأننا إذا أردنا أن نعيش بسلام ونتآخى ونحقق كامل إنسانيتنا دون النظر لأي تصنيفات أو حوادث فعلينا بأن نلقي بتلك الخطابات الاجتماعية وتلك التي تستخدم الدين غطاء لأهدافها والتي تصدرت المنابر عرض الحائط، علينا أن نجرم من يلفظ الألفاظ العنصرية (كالروافض والنواصب) وما إلى ذلك، وعلينا أن نتوقف عن حمل تلك الذاكرة التاريخية المؤلمة التي نستذكر بها عداءات من سبقونا، فما زادتهم تلك العداءات علواً ولا رفعت من شأنهم، فإنما الإنسان عقل وحضارة، والعنصرية الطائفية تقتل السلام والأمان والعقل والحضارة وتسيء إلى الإسلام الصحيح!
في حفل تولي بيل كلينتون فترته الرئاسية الأولى للولايات المتحدة، قرأت مايا أنجلو قصيدة تحتوي على هذه الأسطر : « من المستحيل ألا نعيش التاريخ رغم ألمه المعاصر، وإن واجهناه بشجاعة، لا حاجة لنعيشه ثانية».
وحتى لا نعيش تلك الذكريات المؤلمة التي عشناها في الأسابيع الماضية مرة أخرى، فإن علينا أن نواجه واقعنا بشجاعة، ونعرف لماذا أصبحت عقول شبابنا أرضاً خصبة لأولئك العابثين، أي نعم إن هناك من يريد أن يشعل الفتنة الطائفية وبدأ العمل على ذلك من خلال التغرير ببعض الشباب، ولكن لماذا أصبح هناك من غرروا به وصوروا له أن من يخالفونه من السنة والشيعة كفار، بل حتى وإن افترضنا أنهم كفار فكيف أقنعوه أن قتلهم واجب يدخله الجنة لينعم بالحور العين ولم يقتنع بأن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام قد أحسن لجاره اليهودي!
أخيراً:
الحب والسلام أساس الطمأنينة والرقي والحضارة!
- عادل بن مبارك الدوسري