في رسائله الأخيرة شعرت بيأسه وإحباطه. كتب لي صديقي الطبيب كثيراً عن مدينته الجميلة، وأشهد معه، فقد زرتها مراراً وفتنتني، وأُلخص هنا بعض ما قاله وألحقه بما علمته:
عدن، درة التاج البريطاني، لمئتي عام، سابقت حواضر العرب في التعليم والإعلام، في الطب والخدمات. كان مطارها في منتصف القرن الماضي أحدث المطارات العربية، وكان ميناؤها محطة الأساطيل البحرية. تربط الشرق بالغرب، وتقع على باب المندب، بوابة البحر الأحمر، وعلى بحر العرب، المتصل بالمحيط الهندي والهادي. تقابل القرن الأفريقي، وتقترب من الهند، وتستقبل آسيا. تزود الجزيرة العربية والخليج بخيرات شرق آسيا وأفريقيا. فيها كان أكبر مصافي النفط في المنطقة، تجهز السفن الزائرة والمودعة بالوقود والمئونة. تشتعل فيها روح العروبة فتشاكس المستعمر في صحافة حرة، وإذاعة وتلفزيون.. وتستقبل الطلاب العرب في جامعتها ومعاهدها ومدارسها الإنجليزية والعربية.
كل هذا ورثه الماركسيون عن إمبراطورية بريطانيا الغاربة، في نهاية الستينيات الميلادية، وسلّموها للسوفيت، فتوقف نموها، وتعطلت ماكينة اقتصادها الحر، وتقيّدت حرياتها ولم تعد تلك الفتاة الفاتنة المبهرة.. ولكنها بقيت صامدة، بقيت محافظة على إرثها العمراني والثقافي والإنساني إلى حد كبير.
تحمّلت الشيوعيين ثلاثة عقود، ثم جاءت الوحدة، وما أدراك ما الوحدة. جاء العقيد علي عبد الله صالح بجيش الهدم، فدكوا البلد دكاً، ودمّروا ما استطاعوا تدميره، ثم دخلوها وحكموها عنوة وغصباً.
ربع قرن من الوحدة وزع خلالها الرئيس المخلوع الأعاطي على من حوله، فمنحهم الأراضي والمباني والشواطئ والمشاريع.. وبقي الغضب تحت الرماد، حتى تفجّر في السنوات الأخيرة حراكاً شعبياً يُطالب بالانفصال.
خُلع الديكتاتور في ثورة شعبية، وبدأ الحوار الوطني ضمن المبادرة الخليجية، وتولى الحكومة رجال لم يلوّثهم فساد المخلوع وأعوانه، ووعد أهل عدن، والمحافظات الجنوبية بإقليمين، ومكانة خاصة للعاصمة الاقتصادية، وفيدرالية تعطيهم شيئاً من الحكم الذاتي.
خرج ممثلو الجنوب وأهل عدن من الحوار الجنوبي بمخرجات واتفاقيات أعادت إليهم الأمل في وحدة منصفة، وحرية وحقوق، ويمن سعيد.. ثم... فجأة... انتهى كل شيء!
إيران.. القاعدة.. حزب الله.. والآن داعش.. اشتعلت الفتنة، لعنَ الله من أيقظها، وتحوّلت ساحة الحوار إلى ساحة قتال.. وانطلقت جحافل «يأجوج ومأجوج» من جبال صعدة ومران، على إيقاع الطبول الإيرانية، لتحقيق الأحلام الإمبراطورية الساسانية، وبسلاح «الزعيم» الذي يأبى إلا أن يبقى زعيماً، ويعود رئيساً، أو يورث الكرسي لابنه، وبجند غُرّر بهم بمفاتيح الجنة، وشيكات الأموال المنهوبة، وولاءات قبلية «سنحانية» ومتحالفة.
سقطت عمران، فصنعاء، فالحديدة، فتعز أمام الغزاة، وقاومت مأرب والضالع وأبين وشبوه.. ثم جاء الدور على «عدن». كان سباقاً مع الزمن.. سباقاً مع الحدث.. سباقاً مع الشرعية التي حبسوها في العاصمة السياسية، ثم طاردوها في العاصمة الاقتصادية.. ولما سبقتهم إليها نجدة الجار الشقيق، قرروا أن يسابقوا قمة العرب في شرم الشيخ، ويملؤوا الفراغ بغياب رموز الدولة، ويستولوا على الدرة.. عدن.
جاءت عاصفة الحزم فسبقتهم إليها.. وجاء سيف سلمان فقطع عليهم الطريق.. ومع ذلك واصلوا مهمتهم التدميرية، الانتحارية.. لا يهم كم يموت.. من يموت.. كم يهدم.. ماذا يهدم؟.. فلتسوَ الأرض بمن عليها، وتبقى راية الولي الفقيه، وحكم الزعيم.. لتمت الخيل، كل الخيل.. ويبقى معتليها.
«كيف تصل الإغاثة سفناً إلى الحديدة، وطائرات إلى صنعاء، وهي تحت حكم الحوثي والمخلوع، وتبقى عدن والضالع وأبين وشبوه ومأرب وتعز وغيرها من مناطق المقاومة بلا نصيب. يتزودون هم بالطعام والوقود، ويواصلون التمدد، والتوسع والاعتداء، ونُحرم نحن حتى من الدواء»؟
«أرجوك يا أخي خالد، أوصل رسالتنا إلى التحالف، إلى ضمير العالم، نحن الأحق بالمعونة، نحن الذين نموت على خط النار. اضربوهم في قاعدة العند وتجمعاتهم في محيط المدينة والمطار».
أقول لصديقي الطبيب، ولمرضاه، ولأهل عدن الذين يتشرفون بمثله، ولمن حولها: لم ينسكم التحالف، ولم تنسكم الجارة الوفية، والشقيقة الكبرى، ولم ينسكم أهلكم هنا. الهدنة «المهدرة» انتهت، والعاصفة عادت، والإغاثة وصلت، و»فرج الله قريب».