تشتكي كثير من مكاتب المحاسبة والمراجعة من تفشي ظاهرة تجارة الشنطة (المستفيدون والعاملون في السوق السوداء لمهنة المراجعة والمحاسبة)، ويقال إن السوق السوداء في خدمات المراجعة والمحاسبة بدأت بالتزامن مع بدء الترخيص لممارسة مهنة المحاسبة والمراجعة في المملكة العربية السعودية واستمرت وتعاظمت حتى أصبحت جزءاً من الاقتصاد بالرغم من سنِّ التشريعات والأنظمة وإصدار العقوبات وملاحقة المخالفين.
هناك اختلاف بين المحاسبين حول المقصود بتجارة الشنطة، فالبعض يرى أنَّ تاجر الشنطة هو من يقوم بإصدار قوائم مالية مزورة بأسماء مكاتب مرخصة دون علم أصحاب هذه المكاتب، والبعض الآخر يرى أنَّ تجارة الشنطة تجاوزت عملية إصدار قوائم مزورة إلى التعاون المنظم مع مكاتب مرخصة لإصدار قوائم مالية للمنشآت دون القيام بالحد الأدنى من الإجراءات اللازمة وفق الأنظمة والمعايير ذات العلاقة حيث يُطلِقُ البعض على هذه المكاتب (مكاتب الختم) وهي كناية بأن هذه المكاتب تقوم بالختم على القوائم المالية دون القيام بأيّ إجراءات من طرفها للتحقق من صحة تلك القوائم.
وجدير بالذكر أنه إذا كان المقصود من (تجارة الشنطة) القيام بتزوير القوائم المالية دون علم أصحاب المكاتب، فهذا الأمر في حكم المنتهي بعد صدور المنصة الإلكترونية (قوائم) ولكن شريطة أن تقوم الجهات المستفيدة من خدمات المحاسب القانوني (مصلحة الزكاة، البنوك، وكالة تصنيف المقاولين) باعتماد المنصة الإلكترونية (قوائم) كمصدر وحيد لها، أما في حال أخفقت الوزارة في اعتماد هذه المنصة كمصدر وحيد للقوائم المالية لجميع الجهات المستفيدة، فإن أول الخاسرين من ذلك المكاتب الوطنية النزيهة.
وأما إذا كان المقصود من (تجارة الشنطة) هو عملية إصدار قوائم مالية مدققة دون القيام بالإجراءات اللازمة وفق معايير المراجعة (انخفاض أو انعدام جودة الخدمات المهنية) فهذا موضوع أكبر من أن يتم القضاء عليه من خلال منصة إلكترونية أو جولات ميدانية للجهات الرقابية.
وحدوث هذه المشكلة -في نظري- يرتبط بعدة عوامل من أهمها تقادم نظام المحاسبين القانونيين الحالي ولائحة العقوبات والجزاءات المترهلة.. لابد أن نتذكر أن فلسفة وثقافة المكاتب التي تتعامل بالختم دائماً ما تجعلها قادرة على الصمود أمام جميع الجهات الرقابية بل وهزيمتها في أغلب الأحيان في ظل ضعف وتقادم الأنظمة والقوانين.
ومن العجب أن يشتكي كثير من المحاسبين القانونين من تجارة الشنطة ومكاتب الختم، في الوقت الذي يعترض كثير منهم على إجراء أيّ تعديلات على نظام المحاسبين من شأنها تشديد العقوبات وتسهيل وتسريع إجراءات مقاضاة وإيقاف المحاسب القانوني الذي خالف أو تلاعب ولكن.. ما هو السبب؟.. السبب الرئيس -في اعتقادي- أنَّ غالب هؤلاء المعترضون قلقون من العواقب التي سوف تؤول إليها الأمور بعد إجراء هذه التعديلات، وبمعنى آخر -في ظل ضبابية الأنظمة والمعايير- هل ستكون هذه التعديلات في صالحهم أم أنها ستصبح الأداة التي ستستخدم في القضاء على المكاتب الصغيرة والمتوسطة بغض النظر عن فساد هذه المكاتب من عدمه؟.
يجب أن نعترف بأنَّ النظام الحالي يمنح المحاسبين القانونين هامشَ أمانٍ أكبر من أنْ يتم إيقافهم تعسفاً وظلماً، ولكن هل فكرنا بتبعات هذا الأمان في ظل ضعف وعدم تأهيل الكادر القضائي المختص في النظر في قضايا المحاسبين؟.. في ظل الأنظمة الحالية لا يحق لوزارة التجارة أو الجهات الرقابية بأعلى مستوياتها إيقاف محاسب قانوني عن مزاولة المهنة إلا بقرار من ديوان المظالم.
وحينما ترفع لجنة النظر في مخالفات المحاسبين القانونيين طلب لديوان المظالم بشطب ترخيص المحاسب القانوني المتلاعب وإيقافه عن مزاولة المهنة، تظل القضية عالقة لسنوات عديدة وفي النهاية ينجح كثير من هؤلاء المحاسبين بإلغاء أو تخفيف العقوبة ! ولكن يا ترى ما هو السبب؟.
إذا تأملنا في كثير من هذه القضايا نجد أن خصوم الدعاوى هم من عتاه وخبراء مهنة المحاسبة والمراجعة ويدافعون عن أنفسهم في ظل معايير وأنظمة فضفاضة بالقدر الذي يصعب معها إثبات أي تهمة ضدهم بالعرف القضائي لذا فإنه ليس مستغرباً في ظل وجود معايير وأنظمة متقادمة ومليئة بالعبارات الإنشائية استمرار كثير من المحاسبين المتلاعبين في ممارسة المهنة رغماً عن الهيئة والجهات الرقابية. هذه الظروف بإلاضافة لظروف أخرى حصرت إنجاز الجهات الرقابية في نوعين من المخالفات:
1- المخالفات ذات المرجع الرقمي في النظام والتي يصعب نفيها من المخالف (مثل نسب السعودة أو نسبة ساعات الشريك) وخصوصاً إذا كان مصدر الحصول على هذه البيانات من طرف خارجي (التأمينات الاجتماعية مثلا). ويلاحظ هنا أن هذه المخالفات هي الأكثر شيوعاً ليس بسبب أنها الأكثر حدوثاً ولكن بسبب وجود نصوص صريحة جعلت اثبات هذه المخالفات من السهولة بمكان.
2- المخالفات التي يقوم المخالف بالإفصاح عنها إما بسبب جهله بكونها مخالفة أو لعدم اقراره بأنها مخالفة وقت الإفصاح عنها.
وهذا لا يعني بالضرورة عدم قيام الجهات الرقابية في الماضي برصد مخالفات جوهرية ولكن المقصود هو أن صعوبة إثبات مثل هذه المخالفات قضائياً غالباً ما يعرقل نجاح كثير من الدعاوى المرفوعة وهو ما ترتب عليه رسوخ قناعة لدى كثير من ممارسي المهنة أن الجهاز الرقابي يركز على مخالفات شكلية مثل عدم تحقيق نسب السعودة ويتجاهل مخالفات جوهرية (مثل إصدار قوائم مالية دون القيام بأي إجراءات)
ومما لا شك فيه أن صعوبة إثبات الملاحظات الجوهرية بصورة موضوعية راجع إلى أن النص النظامي أو المعايير التي استندت عليها هذه الملاحظات غالباً ما تكون من النوع الإنشائي (غير واقعي)، لذا فإن إثبات هذا النوع من المخالفات يحتاج إلى خبراء لإعداد مذكرات تتكون من مئات الصفحات لإقناع القضاء بأن هذه مخالفة.
إضافة إلى ما تقدم فإنه بافتراض ثبوت وقوع ملاحظة ما، فإن إثبات وتحديد مدى أهمية هذه الملاحظة يزيد الموضوع تعقيداً ويتطلب مذكرات أخرى لتوضيح الأسس التي تم الاستناد عليها في تقدير أهمية هذه الملاحظة بغرض تحديد الجزاء الملائم، ولذلك فإن غالب النتائج المتوقعة في ظل هذه الظروف تدور حول ما يلي:
1- أن يتم التساهل أو التشدد في رصد ملاحظة واحدة باعتبارها أحياناً جوهرية وأحياناً أخرى غير جوهرية بسبب ضبابية اللوائح التنفيذية للمعايير والانظمة والتي غالباً ما تتكاسل عن تحديد آليات قياس وتحديد مدى جوهرية ملاحظة من عدمها بغرض إيقاع العقوبة الملائمة.
2- أن يتم اعتبار ملاحظة جوهرية بأنها بالفعل جوهرية ويتم أيضاً إقرار العقوبة الملائمة ولكن بسبب عدم ثبوت وقوع هذه الملاحظة أو عدم ثبوت جوهريتها -من الناحية القضائية- يتم تعطيل تنفيذ هذه العقوبة أو تخفيفها.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن غالبية الأنظمة والمعايير لدى الدول المتقدمة التي تحترم القوانين هي أكثر الأنظمة والمعايير حيوية والسبب ببساطة يرجع إلى أنها أنظمة ومعايير واقعية، عملية، متجددة مع تجدد الأحوال والظروف.
ويمكن القول إنه كلما زاد حجم تحديثات الأنظمة ودقة تفصيلاتها، كلما دل ذلك على زيادة حجم تطبيق هذه الأنظمة وارتباطها بالواقع العملي وهو الفرق الأساسي بين أنظمتنا وبين أنظمة الدول المتقدمة. ولكم أن تتخيلوا حجم المشكلة على صعيد مهنة المحاسبة، إذا علمنا أنه منذ أكثر من ربع قرن لم تخضع أغلب مواد نظام المحاسبين القانونيين ولوائحه التنفيذية لأي تحديثات أو تعديلات تذكر بالرغم من التغير الجوهري في ظروف المهنة والاقتصاد السعودي والعالمي ككل.
وتجدر الإشارة إلى أن التحول للمعايير الدولية والذي أقر أخيراً قد يحل جزءاً من المشكلة لكون هذه المعايير أكثر تفصيلاً وحيوية من المعايير السعودية إلا أن جمود باقي الأنظمة الأخرى ذات العلاقة بعمل المحاسب القانوني وخصوصا المتعلقة بالرقابة وفرض العقوبات على المخالفين قد يحول دون تطور المهنة وهو الجانب الأهم في المعادلة.
بالإضافة إلى ما تقدم حول موضوع تقادم الأنظمة وتأثيرها السلبي على المهنة نجد أن ضعف استقلالية الجهاز الرقابي في هيئة المحاسبين القانونينأمام نفوذ المحاسبين القانونيين قد يحول دون إيقاع بعض العقوبات على بعض المكاتب المخالفة وخصوصاً المكاتب التي لها ممثلون ونفوذ على مجلس الإدارة.
ونحن لا نزال نتذكر الصدمة التي أصابت الكثيرين عندما صدر تعميم هيئة السوق المالية والذي حذر الشركات المساهمة من التعامل مع شركة «ديلوت أند توش» (Deloitte) فيما يتعلق بالمحاسبة القانونية. وبغض النظر عن ملابسات القضية وعن مدى ملائمة وصحة هذا التعميم فإن ما يهمنا هنا هو التأكيد على أن أكبر المقومات لصدور هذا القرار الجريء هو صدوره من جهة تتمتع باستقلال تام عن نفوذ المحاسبين القانونيين مثل «هيئة السوق المالية».
ومن المعلوم أنه بالرغم من أن رئيس مجلس إدارة الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين هو وزير التجارة، إلا أن المحاسبين القانونيين يمثلون قرابة نصف أعضاء مجلس الإدارة مما يعني أنهم يؤثرون بصورة جوهرية على جميع قرارات الهيئة والتي من ضمنها قرارات الرقابة على أدائهم المهني الامر الذي يتعارض كليا مع مبدأ استقلالية وحياد الاجهزة الرقابية، فليس المقصود هنا هو حرمان المحاسبين القانونيين من المشاركة في القرارات المتعلقة بالمهنة، وإنما المقصود ضمان استقلالية جهاز مراقبة جودة الأداء عن نفوذ المحاسبين القانونيين.
ولكي نخرج من هذا المقال بفائدة عملية سأختم هذا المقال بمقترحين رئيسين أرى أنهما قد يساعدان في إعادة الأمور إلى نصابها:
أولاً: العمل على فصل جهاز رقابة جودة الأداء المهني عن هيئة المحاسبين لتكون هيئة مستقلة تسمى «هيئة الرقابة على المحاس بين القانونيين وتصنيفهم» بحيث تتبع هذه الهيئة لوزير التجارة مباشرة ويكون اختصاصها مراقبة وتقييم أداء المحاسبين القانونيين بغرض مكافأتهم من خلال رفع أو تثبيت تصنيفهم أو بغرض معاقبتهم من خلال خفض تصنيفهم أو باصدار قرارات لإحالة المكاتب المخالفة للقضاء أو بكليهما معاً مع نشر تقرير سنوي يتضمن نتائج التصنيف السنوية للمكاتب وفقاً لمعايير معلنة وواضحة وقابلة للقياس وليس فقط بالاعتماد على معايير كمية متعلقة بالحجم (مدى الانتشار) والعدد (عدد الموظفين الفنيين). ويكون تمويل هذه الهيئة وأعضاء مجلس إدارتها من ممثلي الجهات التي تستفيد بصورة مباشرة من خدمات المراجعة التي يقدمها المحاسبون وعلى رأس هذه الجهات: مصلحة الزكاة والدخل، مؤسسة النقد العربي السعودي، وكالة تصنيف المقاولين، وزارة العدل وديوان المظالم، وهيئة السوق المالية، والهيئة العامة للاستثمار بالإضافة إلى الاستعانة بمتخصصين في المحاسبة من أعضاء هيئة التدريس ومهنيين في القطاع الخاص من غير الممارسين وآخرين ممثلين لهيئة المحاسبين القانونيين دون أن يكون لهم حق التصويت.
ثانياً: إذا تمت الموافقة على إجراء الفصل بين المهام الرقابية والمهام التشريعية في عمل الهيئة يتم تعديل نظام هيئة المحاسبين بحيث يتم انتخاب كامل مجلس الادارة من بين المحاسبين المرخصين مع إشراك عدد من أعضاء هيئات التدريس في الجامعات السعودية بحيث يكون اختصاص هيئة المحاسبين الرئيسي هو اختصاصاتها الحالية بالإضافة إلى منحهم الحق في تعديل وتحديث اللائحة التنفيذية لنظام المحاسبين القانونيين وخصوصاً لائحة العقوبات، وهو الأمر الذي سيتيح لهم إجراء التعديلات والتحديثات بصورة مستمرة لتكون هذه الأنظمة متجددة وواقعية وعملية، على أن يكون من مهامهم أيضاً وضع معايير وآليات تصنيف المحاسبين القانونيين على أساس مستوى جودة الأداء مع مراعاة عدم تدخل هيئة المحاسبين في عمل هيئة رقابة جودة الأداء المتعلق بالعمل التنفيذي لفحص وتقييم جودة أداء مكاتب المحاسبين القانونيين.
وهنا أود الإشارة إلى أنني قد كتبت مقالاً بعنوان «تصنيف المحاسبين القانونيين.. حلم هل يتحقق؟ « تم نشره في جريدة الجزيرة في عدد يوم الجمعة الموافق 5 شعبان 1434هـ أوصي القاري الكريم بالرجوع إليه للحصول على فهم أعمق لفكرة تصنيف المحاسبين القانونيين والتي أرى أنها -وفقاً للمعطيات الحالية- سوف تعيد توجيه سوق الخدمات المهنية نحو تحقيق أعلى مستويات الجودة الممكنة بصورة مبتكرة وموضوعية. وعلى الرغم من الإهتمام الذي أبداه معالي وزير التجارة بفكرة التصنيف وقت نشر المقال إلا أنه لا يزال عدد من المحاسبين القانونيين يعارضون هذه الفكرة، والسبب الرئيسي في ذلك أنه في كل مرة تُعرض فكرة التصنيف، تُعرض بصورة مجتزأة دون تحديد أهداف ومعايير وآليات قياس جودة الأداء المهني التي ستستخدم في تنفيذ المشروع. وكنتيجة لذلك فإن أي عاقل لن يندفع في تأييد مشروع أو توجه جديد لا يعرف ماهيته أو أهدافه أو تبعاته على المستوى الشخصي أو على مستوى المهنة ككل!.
بقي أن أقول إننا -بلغة العصر- نحتاج إلى (عاصفة حزم) لتنظيف المهنة من المرتزقة الدخلاء من أجل (إعادة الأمل) لمهنة المراجعة لتنافس أرقى المهن كما هو الحال في الدول المتقدمة.. والله الموفق.
- طارق محمد الشباني
@tmash388