أجبرتني الظروف أو خدمتني الفرص أو قادتني رغبتي للبحث والاطلاع على أنظمة التعليم المختلفة في بعض دول العالم الشرقية والغربية، العربية منها والأجنبية. خرجت من ذلك البحث بعدد من الاستنتاجات التي قد تكون سبباً في تميز تلك الأنظمة التعليمية وقد تكون سبباً في ضعف أو فشل البعض الآخر في تحقيق أهدافه.
لقد حاولت جاهداً تصنيف العوامل المسببة للنجاح أو الفشل للنظام التعليمي، واستطعت تصنيفها في أربعة مجالات: التنظيم الإداري للنظام التعليمي، الرؤية والتخطيط، الممارسات العملية في الميدان، والثقافة المجتمعية. عند الاطلاع على التنظيم الإداري لتلك الأنظمة التعليمية وجدت أن أثره محدود إلى درجة كبيرة، هناك أنظمة تعليمية مركزية في تعليمها وإدارة نظامها وتوحيد مناهجها وأساليبها، وتأتي ضمن أفضل الدول في التعليم حسب التصنيفات العالمية، وهناك أنظمة تعليمية لا مركزية بدرجة عالية حتى في منح الحرية للمعلم في المدرسة إلى اختيار المحتوى التعليمي للمقرر الذي يحقق أهدافاً متفق عليها وكذلك تأتي تلك الأنظمة ضمن أفضل الأنظمة التعليمية حسب نفس التصنيفات العالمية. فالقضية ليست مركزية من عدمها إذاً، بل الأمر يتعدى ذلك إلى عوامل أخرى. والتنظيم الإداري المركزي قد يكون مناسبا في بلد ولكنه غير مناسب في بلد آخر.
وتعلمت كذلك من خلال اطلاعي على تلك الأنظمة التعليمية المتميزة، أنها تمتلك رؤى واضحة وخططاً محددة بأهداف وزمن، وتبني على ما يسبق من أعمال ليكون البناء تراكمياً، حيث تأخذ في الاعتبار كل المشروعات التطويرية ونتائجها وتتلافى سلبياتها، قد تستعبدها بالكامل لعدم مناسبتها لتوجهات مستقبلية وظروف حالية، وقد تبني عليها وتصلح أو تطور بعضها. لكن العامل المشترك في نجاح تلك الأنظمة التعليمية هو وضوح الرؤية في التطوير ومشاركة الجميع في التنفيذ، وغالباً تكون تلك المشروعات والرؤى بأمر يأتي من رئيس الدولة لتوضيح رؤيته ومشروعه في تطوير أو إصلاح التعليم. وتعلمت كذلك في هذا الجانب أن ضمان العدالة في فرص التعلم، والمساواة بين جميع الفئات في تلك الدول، والتركيز على كيفية التعلم أكثر من التركيز على نقل المعلومة تعد محاور أساسية لكل المشروعات التطويرية أو الإصلاحية للتعليم.
وتعلمت أيضاً من بحثي في تلك الأنظمة التعليمية أن الممارسات الميدانية سواء في اقتراح المشروعات أو تصميمها أو حتى الممارسات التي تتم في المدارس وداخل الفصول الدراسية، جميعها مبنية على أسس علمية تراكمية من نتائج الأبحاث وأفضل الممارسات وليست أفكاراً سطحية مبتورة تقوم على تعميم أو قرار إداري ويترك للميدان حرية الاجتهاد في التطبيق. فعندما تتحدث مع مدير مدرسة أو معلم وتسأله عن سبب تطبيقه لطريقة معينة دون أخرى، غالباً يشرح لك بعمق ماذا تقول الدراسات حولها وكيف أنه اختارها وكيف يتابع طلابه بعد تطبيقها، وتشعر من خلال حديثه وكأنه يعيش قصة معها. والمهم في الموضوع أن تلك الدراسات والممارسات التي يتحدث عنها هي نتائج أبحاث من مجتمعه يقوم بها أساتذة جامعات من دولته، وهذا يوضح لك عمق العلاقة بين الجامعات والمدارس في التطوير وبناء النظريات. لقد تحسرت كثيراً على وضعنا وعملنا في جزر متناثرة لا يربط بينها سوى ضحالة المياة الممتدة بينها وشبكة الطحالب المتنوعة التي توحي لك بعدم صلاحيتها للمرور بينها.
وتعلمت أخيراً بأن هناك عاملاً مهماً يقود التعليم المتميز وكذلك التنمية في تلك الدول. ذلك العامل هو الثقافة التي يتمتع بها أفراد المجتمع، فجميع تلك الأنظمة التعليمية المتميزة تعتمد على ثقافة المجتمع ونظرتهم للتعليم وقيمته ويعرفون جيداً دورهم في دعم نجاح التعليم حيث يقوم كل بدوره في الدعم، وهناك أيضا ثقافة للعاملين في التعليم أعمق من ثقافة المجتمع نفسه من حيث تنفيذ أدوارهم والقيام بمسؤولياتهم بكل جدارة.
وفوق هذا كله تقوم تلك الأنظمة على التطوير والتدريب والتخطيط ببساطة ووضوح بعيداً عن صرف الميزانيات الكبيرة دون الحصول على مردود مواز لذلك. على سبيل المثال: التعليم في فنلندا تقدر ميزانيته بمقدار ?? ? من ميزانية الدولة وتمتلك نظاما تعليميا مميزاً قد تخفى على الكثير عوامل تميزه حتى من الفنلنديين أنفسهم.
باختصار شديد... تعلمت من النظام التعليمي الفنلندي أن الثقافة الداخلية للنظام التعليمي وكذلك ثقافة المجتمع التي تقوم على الثقة في كل فرد هي من أهم أسباب تميز التعليم الفنلندي إن لم تكن الأهم.
وتعلمت من النظام التعليمي الأمريكي أن التعليم يقوم على مشاركة الجميع وحرية رأي الفرد والديموقراطية في القرار، وبذلك يتحقق لكل فرد الأمان والثقة لدرجة كبيرة في المدرسة، كما أنه يسعى دائما للتحدي.
وتعلمت من النظام السنغافوري أن الالتزام من أهم عوامل النجاح، فكل له مهمته التي يؤديها بإتقان. وأختم بما تعلمته من بعض أنظمة التعليم العربية وناقشته مع زميل وأستاذ فاضل ذي خبرة كبيرة، حيث اتفقنا على أن التعلم في أنظمة التعليم العربية يحدث غالبا إما عن طريق الصدفة أو عن طريق صدمة. فالصدفة تقوم على أن يكون الطالب محظوظا في معلمه ويتعلم منه شيئاً أو يتعلمه صدفة بدون تخطيط ويكتشف ذلك بعد أن يتعلمه، أو أن يكون تعلمه صدمة من خلال أساليب العنف المدرسي الذي يخلق الرعب والخوف في نفس الطالب طيلة حياته. وبالمناسبة وجدت أن غالبية من قابلتهم يحملون في نفوسهم الضغينة على معلم أو أكثر درسهم في أحد الصفوف الدراسية. وكذلك وجدت أنه لا يوجد مشروع إصلاح تعليمي ناجح في الدول العربية جميعها بلا استثناء، وهذا قادني إلى البحث في الأسباب وسيكون ذلك ضمن مقالة قادمة بإذن الله، هكذا كانت رحلتي وما تعلمته من بحثي في أنظمة تعليمية مختلفة.
- نائب محافظ هيئة تقويم التعليم