ألقيتُ القبضَ على اللحظةِ الهاربة في أحد أزِقَّةِ الحواري العتيقة.. وإنْ شئتَ الدِّقَّة استوقفْتُها على حين غِرَّة من أمرِها ولم تُبْدِ أيَّ مقاومةٍ أو محاولةٍ للهَرَب مرَّةً أُخرى.. ولكن قبل أن أضع القفلَ على مِعْصَمَيْها اللذيَن لا يحتملان النَّدَى؛ تمَّ اختطافي من قِبَل مُلثَّمين، لا أزالُ في قبضتهم!
الحقيقة لم أكُن أدري أنَّ حريَّتي رهينةٌ بالتخلّي عن اقتناص اللحظات الهاربة، سيَّما وأنِّي لا أحملُ - في مِخلاةِ عقلي - فَخَّاً قط.. ولا أناصب أحداً شِراكاً في وديان الخيال منذ أن خرجتُ من خاطرتي البِكْر في ذلك الفجر المُراهق وأنا أتأبَّط خُفَّيْ حنيني، ماشياً على أمشاطِ ظِلِّي ابتغي موعداً مع قصيدةٍ عصماء في بيت الخليل! ولمَّا تحوَّل بفِعلِ فاعلٍ إلى غُرفةِ أشباح تصطفق أبوابُها وشبابيكها وتصطرع أثاثاتها - في ذلك الضُحى الدامس - وتتهاوى جدرانها إثرَ العُواء الرابض فوق الأسوار الخارجيَّة، لم أجِد مناصاً من التسلُّلِ عارياً إلاَّ من إزارِ تفعيلةِ بحر الكامل!
ولكي أدرأُ عنِّي شُبهةَ التلبُّسِ بالقريض القاتل الذي يجلب الوِتْر والإقصاء ربَّما أو الإخصاء؛ طفقتُ أقول ما لا يُفهَم من همهمات وغمغمات وإشارات تشي باختلال البوصلة، بل تُحْملُ العقْلَ الجمعيَّ على آلةِ التأويلِ الحدباء لا ليرى العُرْيَ والحفاء، ولكن ليسمعَ وقع أقدام المُشيِّعين!
كلَّما بعُدت عن موقع الحدث الجفرافي أو التاريخي؛ ازْدد قُرباً من هذا الزوال الكئيب! أسيرُ دونما وجل.. فيفسح لي الآخرون ويفتح لي بعضُهم آذانَهم وأفواههم ليأخذوا الحكمة أو ما يدغدغ وجدانهم، ويخاطب أشواقهم ويُنفِّس عن كُرباتهم، ولو كان ذلك على لسان مَن رُفع عنه القلم أو قُل نُزع منه القلم!
إذا ما بلغ منِّي الجهد والرَّهَق؛ أجلس أنَّى شئتُ لأخربشَ بإصبعِ الوُسطى مُطلْسِماً الأرضَ كما ينبغي لدجَّالٍ أو رمَّالٍ لا يعنيه شكل الخطوط بقدر حبْكةِ النتائج المُسبقات وقراءة ما يدور بخلَد الواقفين حوله!
أمَّا إذا أزِفَ الإيابُ إلى اللا مكان وأذَّن مؤذِّنُ الرحيلِ من المقيل؛ تأبَّطتُ رواحي لأقذَّ السيرَ حثيثاً كَراوٍ يحمل الحلوى والعلقم.. الآمال والآلام.. الدموع والابتسام..البُشريات والمشانق لأبطاله المتكدِّسين في المحطَّات.. اللاهثين خلف المركبات.. الراكضين بلا أقدام.. الدامعين بلا عيون.. الصارخين بلا ألسُن.. المُنْتطحين على مَكبِّ القمامة والنفايات.. الراكبين الفارهات.. الخانسين في المُتنزَّهات.. الخاشعين على موائد السُحْتِ.. الشاربين من دماء الفقراء والمساكين!!
أراهم جميعاً ولا أرى منهم أحداً.. أسمعهم جيِّداً ولا أفهم منهم شيئاً..لا..لا.. بل كنتُ أعِي جيِّداً ما يدور في عالمهم وأعلم الكثير من بواطن الأمور والتي لو علموها لأصبح جُلَّهم في مقامي هذا!
الآن ينحسر المدُّ البشريُّ والليلُ يُرخي سدولَه. الآن تتبدَّى الخلوةُ كعروسة جنِّ تنتظر عرسها منذ آلاف السنين على (حُفرة طلح ) في وادي عبقر.. رياحُ الشتاءِ لها فحيح أفعى.. طقطقة كراتين (الشمَّاسة) والشحَّادين.. سعال المرضى والمجانين.. هسهسة الأكياس المتطايرة.. عطن مخلَّفات السوق.. المصطبة باردة.. ولكني لا أبالي.. أسمالي لا تقيني البرد غير أنِّي لا آبه.. أمعائي تصرُّ كسرير متهالك تحت وطأة حمْلٍ ثقيل..! لا شيء يشغلني..لا شيء أخشاه.. لا شيء أخشى عليه.. لن أبحث عن جنْبٍ مُريح.. لن أرهقَ بصري بالنظر، لا إلى السماء ولا إلى الأرض.. سأنام مباشرةً دون أية مقدِّمات.. طفولتي اللاهية.. منزلنا الصغير.. شجرة الليمون.. عجلة أبي (الرالي).. رائحة أُمِّي.. اللبن المحروق.. ضفائر سلمى.. دفتر الشعر القديم.. ابني الوحيد.. رسوماته البديعة.. لثغته الجميلة.. الصباح الهادئ.. الحارة العتيقة.. الأشتجار بين المغرفة التي اختلستْ حبَّتين من الفول المصري والزبونة السليطة اللسان.. الزبونة استخدمتْ الأنياب، بينما دافعتْ المغرفة بنابئ الكلام.. أمَّا الفوَّال فقد كان شاهد ملك! دوران الأرض.. تراقص السماء.. توجَّه الأنظار كلَّها ناحية موقع العراك.. اختزل الزمان عمره في اللحظة التي رأيتها فيها في آخر الزقاق.. ركضتُ نحوها.. ألقيتُ عليها القبضَ.. اختطفني الملثَّمون!!
شاذلي جعفر شقاق