يُطرح اليوم الكثير من التعليقات والمقالات والانتقادات والآراء حول مستوى الخدمات الصحية الحكومية.. وأغلبها تنتقد الوضع الحالي وتطالب بتطبيق التأمين الصحي دون تأخير.. باستثناء كاتبين - بحسب ما أمكنني الاطلاع عليه حول السياق نفسه - الأول هو د. عثمان الربيعة الذي طرح الموضوع بشكل مختلف بجريدة الجزيرة بتاريخ 20-4- 36 حيث قال.. (إن ما يتوقعه المطالبون بتطبيق التأمين الصحي على المواطنين من إيجابيات ومزايا لن يتحقق تلقائياً بمجرد تعميمه، وسيخيب ظنهم إن لم يرتبط بتحديث أساليب العمل وتحسين الإمكانات في مرافق الخدمات الصحية).
وقد أوضح الكاتب من عمق معرفة وخبرة ودراية بطبيعة المجتمع وحقيقة الوضع القائم بأن هناك مشكلات لا يحلها تطبيق التأمين الصحي، بل قد يزداد الأمر سوءاً..!!
وهذا المقال تحديداً هو ما دعاني لكتابة هذه السطور..
الطرح الثاني كان للأستاذ محمد البنيان والذي كان بعنوان خيارات التحول في تقديم الخدمات الصحية، المنشور في جريدة الشرق بتاريخ 29-2-36 والذي تطرق بوضوح للموضوع نفسه عندما قال... (منشأ التخوف عندما تقدم حلولاً سريعة غير مدروسة بعمق، الغرض منها الحصول على إنجاز سريع وإطفاء سريع للحرائق -كما يقال- أي إظهار صورة وردية للناس بإيجاد حلول ظاهرها الرحمة وباطنها معاناة حقيقية يتجرع غصصها الناس على المدى الطويل ويكون علاجها أشد صعوبة من معالجة الوضع القائم. حتى العودة للوراء وقتها تصبح مستحيلة).
المشكلة عندما يتم طرح حلول لا تُعرف تفاصيلها ولا مدى فعاليتها ولا إمكانية مناسبتها.. لأنها لم تُحدد طبيعة المشكلة ولا تفاصيلها ولا أسبابها!!
الحديث دائماً حول ما عندنا وعند الآخرين وتقصير الحكومة التي لم تطبق ما عندهم.. وهذا يذكرني بكلمات ذات دلالة للكاتب سمير عطاالله وهو يتحدث عن لبنان.. فيقول: (صرنا نحمّل «الحكومة» كل شيء، من الغلاء إلى العواصف. ولا مرة كان المجتمع مسؤولاً. بقينا نفعل ذلك إلى أن لم يعد لدينا حكومة ومسؤولون. واكتشفنا أن معظم الخراب مسؤولية الناس، وكذلك معظم الفساد، والقسم الأكبر من سوء الخلق (المشكلة الأكبر في عدم تحديد المشكلة الذي قلما كان هو موضوع البحث والتقصي والمعالجة.. كثير من الكتابات تتكلم عن العرَض لا عن المرَض إذا جاز لنا أن نستخدم المصطلحات الطبية..
وبالتالي تتم معالجة العرض بالمسكنات ولا يتم معالجة المرض نفسه..
الحلول الجاهزة أشبه ما تكون بوصفة دواء من صيدلاني متعالم أو معالج شعبي دون تشخيص دقيق للمرض، وربما كان الدواء الموصوف سبباً في تفاقم المرض..
حلول الآخرين وضعت لمعالجة مشكلات محددة وواضحة لهم، وهي تختلف تماماً عن مشكلاتنا، ومن البديهي أن تكون غير مناسبة لحل مشكلاتنا، ولو فعلنا فالنتيجة معروفة سلفاً وستنقضي السنين اللاحقة في محاولات الترقيع حفظاً لماء الوجه (الذي هو بالطبع وجه المسؤول عن القرار) قبل أن يتم الاعتراف بالفشل، الذي لن يأتي إلا بعد (خراب مالطة).
المشكلة القائمة لدينا تجذرت خلال عقود حتى أصبحت جزءاً من ثقافة العمل وثقافة المنظمة التي هي بطبيعة الحال مستمدة من ثقافة المجتمع..
لو أردنا التعرض - ولو جزئياً - لمناقشة بعض عناصر المشكلة وأبعادها الرئيسة القائمة على أرض الواقع والتي تشكل مجتمعة أساس المشكلة، وذلك كمحاولة لبلورة الصورة للمعنيين والمهتمين - على أقل تقدير.
وقد أمكن ذلك من خلال متابعة طويلة وملامسة يومية بحكم التخصص والدراسة وطبيعة العمل، وأيضاً بحكم القرب من مختلف الممارسين العاملين في الميدان ثم بحكم المتلقي النهائي للخدمة يتضح أنها تكمن في ثلاثة محاور رئيسة هي باختصار مباشر:
النظام المعمول به والإدارة والثقافة السائدة..
وتسهم هذه المحاور الثلاثة بشكل أساسي في تشكيل أساس المشكلة، وقد يكون المحور الثالث هو الأهم في حجم المشكلة باعتبار أن الثقافة السائدة للمجتمع لها تأثيرها المباشر على السلوك الإداري والتنظيمي في المنشأة، كما أنها تترك أثراً ملحوظاً في تشكيل أي نظام..
أولاً: محور الثقافة السائدة:
تغلغلت ثقافتنا (الخاصة) في مفاصل حياتنا فأصبحت هي العرف السائد حتى على المنطق..
نسبة غير قليلة من الموظفين وخصوصاً الوظائف الوسطى والدنيا (ولا أريد أن أحدد النسبة بدون دراسة) يعتبرون الوظيفة والراتب حقاً مكتسباً ولا يرون أنفسهم معنيين بالإنجاز وتقديم الخدمة على الوجه الصحيح، رغم الإنفاق بسخاء على برامج التدريب المختلفة التي ينظر إليها هؤلاء على أنها وسيلة للترفيه أو تغير جو العمل.
كذلك تكونت عند الموظف ثقافة (الفزعة) للمعارف حتى أصبحت جزءاً من روتين العمل اليومي.. فكثيراً ما تتدخل الفزعة بموجب موروثنا الثقافي في فتح الملفات لبعض المرضى أو حجز المواعيد بشكل لا يتماشى مع سياسات العمل المدونة.. ويتكرر ذلك حتى من أصغر الموظفين..!
أما الاستشاري السعودي فإنه يمارس عمله بمفهومه الذي تشبع به حتى أصبح عادة يمارسها، فهو يعتقد أنه أعلى وأهم من أي موظف آخر وبالتالي يحق له ما لا يحق لغيره ولا ينطبق عليه ما ينطبق على غيره من الأنظمه.. وبطبيعة الحال هناك أطباء بخلاف ذلك لكنهم الفئة الأقل فأصبحوا في الحقيقة هم الاستثناء..
كثيراً ما يهدد الاستشاري السعودي بالاستقالة والعمل في القطاع الخاص الذي يضمن له ضعف راتبه إن لم يكن أضعافاً كثيرة، لأن الدخل هناك 50% من الإيرادات، وأحياناً أكثر بتفاصيل ليس هذا مجالها.
الكثير من هؤلاء الأطباء يعمل جزئياً في القطاع الخاص رغم أن في ذلك مخالفة للنظام.. ويستوعب في الفترة الواحدة (المساء غالباً) من (40) إلى (60) مريضاً في حين يقلب الدنيا لو زاد عدد المرضى في عيادته الرسمية عن (20) مريضاً، ويحدث ويتكرر أن يغيب عن مرضاه في المستشفى الحكومي ويوكل المهمة للطبيب المقيم أو (المتدرب)!!
وهناك الكثير الذي يستحق المنقاشة عن سلوك الطبيب السعودي (لعل هذا يكون موضوعاً لطرح مستقل).
ثانياً محور الخلل في النظام:
وضعت الآليات النظامية المختلفة لتحقيق هدف معين لكنها قد تحول دون تحقيق أهداف أهم منه بكثير. بدءاً بالموظف الصغير الذي أدرك أنه بمأمن نظامي عن الاستغناء عنه (أي الفصل) إلا عند ارتكاب ما يخل بالشرف أو الغياب المتواصل، ولهذا تجد كل همه الحصول على وظيفة حكومية لتوفر الأمان الوظيفي -على حد وصفهم..
ولذا يتضح الفارق بين موظف الاستقبال السعودي في المستشفى الحكومي كمثال بالمقارنة مع الموظف السعودي نفسه في المستشفى الخاص لكل من مر بالاثنين دون الخوض في التفاصيل، رغم أن راتب الثاني أقل وساعات عمله أكثر، ولعل السبب الرئيس خلف ذلك الآلية النظامية التي تمكن المسؤول في المستشفى الخاص من الاستغناء عن الموظف عند إهماله أو تقصيره..!!
- الآلية التي يتم بها توزيع جداول الأطباء في المستشفى الحكومي بالمقارنة مع الخاص تظهر الفرق الشاسع في مدى الاستفادة المثلى من أغلى رأس مال بشري مكلف على الدولة وهم الأطباء.
وهذا يظهر خللاً نظامياً مقراً من الجهات الإشرافية الأعلى وخللاً إدارياً وتنظيمياً في المنشأة، ولتوضيح ذلك:
-عندما يكون الاستشاري موظفاً في المستشفى الخاص بما في ذلك رؤساء الأقسام الطبية، فإنه يعمل (11) فترة (session) في الأسبوع من أصل (12)، أي فترة راحة واحدة في الأسبوع.. (حسب المعمول به يكون في اليوم الواحد فترتين sessions 2 الصباحية وبعد الظهر)، ويلتزم بالحضور بدقة لأنه يعرف ماذا يعني عكس ذلك،
بينما يحصل الاستشاري في المستشفى الحكومي على فترتين إلى ثلاث فترات في الأسبوع أو أقل من أصل (10)، بمعنى أن هناك من سبع إلى ثمان فترات من وقت الاستشاري غير مستغلة لرؤية المرضى، أي ما يعادل ثلاثة إلى أربعة أيام في الأسبوع!!
القضية الأهم أو المشكله الأكبر التي لا يعرفها الكثير تحصل في بعض المستشفيات الحكومية الكبيرة، حيث يكون لبعض الاستشاريين عيادة واحدة في الأسبوع، أي نصف يوم، وبتوضيح أكثر تفتح عيادته أربع مرات في الشهر (نصف يوم لكل مرة)، وهذا يعني يومين في الشهر، ويتم ذلك تحت مسميات مختلفة!!، منها على سبيل المثال البحوث والدراسات.. إلخ، ولهذا تصبح المواعيد بعيدة.
الفرق أن الذي أقر جداول الأطباء في المستشفيات الخاصة هو نفسه الذي يريد الاستفادة الكاملة من وقت الطبيب مقابل ما يدفعه له.. ولهذا وعند المقارنة بين مستشفيين بالسعة السريرية نفسها أحدهما خاص والآخر حكومي، نجد أن الخاص يستوعب من خمسة إلى عشرة أضعاف ما يستوعبه الحكومي من المرضى في اليوم نفسه..
الشواهد حية وقائمة وليس هذا مجال التسمية! مع أنها ليست سرية!!
ثالثاً محور الخلل في الإدارة:
الإدارة العليا في المنشأة الصحية الحكومية أو الخاصة لها دور أساسي في نجاح المنشأة أو تعثرها، ويعتمد ذلك على مدى وضوح الرؤية والأهداف والصلاحيات المتاحة والقدرات الشخصية في التعامل مع المعطيات..
كثير من منشآتنا الصحية الحكومية تتوفر بها أحدث التقنيات والكوادر المدربة، وتخصص لها ميزانيات جيدة، ولكن الثقافة الإدارية والتنظيمة فيها لا تجاري مثيلاتها في القطاع الخاص.
لا نحتاج في هذه المرحلة بالذات أن ننظر بعيداً نحو المنشآت الطبية العالمية الشهيرة ونحاول محاكاتها!!
لأن ثقافة المريض والموظف هناك مختلفة تماماً.. وبيئة العمل مختلفة والثقافة الكلية للمجتمع مختلفة..
يكفينا في هذه المرحلة أن نحرص على أن يجد المريض موعداً قريباً بمثل ما يجده إذا اتصل بالمستشفى الخاص..
يكفي أن نحرص على أن يدخل المريض على الطبيب خلال وقت انتظار لا يتجاوز ما هو متوفر في المستشفى الخاص.. ويكفي أن يُستقبل المريض من موظف الاستقبال بالطريقة نفسها التي يقدمها زميله الموظف في المستشفى الخاص.. ويكفي أن تنجز له الإجراءات أو فحوصات المختبر والأشعة بمثل ما يتم في المستشفى الخاص..
رغم أن هذا المستشفى الخاص يستقبل في اليوم الواحد عشرة أضعاف ما يستقبله مستشفى حكومي مشابه..
وهذا المستشفى الخاص ليست لديه حلول مستقدمة من مايو كلينك أو غيرها!!..
كل ما في الأمر أن لديه أهدافاً واضحة وتنظيماً إدارياً بصلاحيات واضحة وإدارة واعية تعرف ماذا تريد..
الحلول ليست في الخصخصة ولا في التأمين.. هذه الحلول في الغالب تأتي من البعيدين عن عمق المشكلة، أو أنها حلول من شركات أجنبية..
هذه العوائق أو الانحرافات جسيمة وتمثل عمق المشكلة الصحية.. وعندما يتم التعرف على أبعاد المشكلة ووضعها فعلياً في قائمة العمل لإيجاد الحل فقد قطعت نصف المسافة نحو الحل..