يقول الطالب الياباني (اوساهير) الذي بعثته حكومته للدراسة في ألمانيا: لو أنني اتبعت نصائح أستاذي الألماني الذي ذهبت لأدرس عليه في جامعة هامبورج، لما وصلت إلى شيء، كانت حكومتي قد أرسلتني لأدرس أصول الميكانيكا العلمية، كنت أحلم بأن أتعلم، كيف أصنع محركاً صغيراً؟ كنت أعرف أن لكل صناعة وحدة أساسية أو ما يسمى (موديل)، هو أساس الصناعة كلها, فإذا عرفت كيف تصنع وضعت يدك على سر هذه الصناعة كلها، وبدلاً من أن يأخذني الأساتذة إلى معمل، أو مركز تدريب عملي أخذوا يعطونني كتباً لأقرأها، وقرأت حتى عرفت نظريات الميكانيكا كلها.
ولكنني ظللت أمام المحرك، أيّاً كانت قوته وكأنني أقف أمام لغز لا يحل. وفي ذات يوم قرأت عن معرض لمحركات إيطالية الصنع، كان ذلك أول الشهر وكان معي راتبي. وجدت في المعرض محركاً قوة حصانين، ثمنه يعادل مرتبي كله، فأخرجت الراتب ودفعته وحملت المحرك، وكان ثقيلاً جداً وذهبت إلى حجرتي ووضعته على المنضدة وجعلت أنظر إليه، كأنني أنظر إلى تاج من الجوهر. وقلت لنفسي: هذا هو سر قوة أوروبا، لو استطعت أن أصنع محركاً كهذا لغيرت تاريخ اليابان. وطاف بذهني خاطر يقول: إن هذا المحرك يتألف من قطع ذات أشكال وطبائع شتى، مغناطيس كحدوة الحصان، وأسلاك وأذرع دافعة، وعجلات وتروس وما إلى ذلك.
لو أنني استطعت أن افكك قطع هذا المحرك وأعيد تركيبها بالطريقة نفسها التي ركبوها بها، ثم شغلته فاشتغل، أكون قد خطوت خطوة نحو سر (موديل) الصناعة الأوروبية.
وبحثت في رفوف الكتب التي عندي حتى عثرت على الرسوم الخاصة بالمحركات وأخذت ورقاً كثيراً وأتيت بصندوق أدوات العمل ومضيت أعمل.
رسمت المحرك، بعد أن رفعت الغطاء الذي يحمي أجزاءه، ثم جعلت أفككه، قطعة قطعة، وكلما فككت قطعة رسمتها على الورقة بغاية الدقة. وأعطيتها رقماً وشيئاً فشيئاً فككته كله، ثم أعدت تركيبه، وشغلته، فاشتغل، كاد قلبي يقف من الفرح. ولا أصيب من النوم إلا ما يمكنني من مواصلة العمل.
وحملت النبأ إلى رئيس بعثتنا فقال: حسناً ما فعلت، الآن لا بد أن أختبرك. سآتيك بمحرك متعطل، وعليك أن تفككه، وتكشف موضع الخطأ وتصححه، وتجعل هذا المحرك العاطل يعمل. واستغرقت هذه العملية عشرة أيام عرفت أثناءها مواضع الخلل. فقد كانت ثلاث من قطع المحرك بالية متآكلة، صنعت غيرها بيدي، صنعتها بالمطرقة والمبرد.
بعد ذلك قال رئيس البعثة، وكان بمثابة الكاهن يتولى قيادتي روحياً، قال: عليك الآن أن تصنع القطع بنفسك ثم تصنع محركاً. ولكي أستطيع أن أفعل ذلك التحقت بمصانع صهر الحديد، وصهر النحاس، والألمونيوم، بدلاً من أن أعد رسالة الدكتوراه، كما أراد مني أستاذي الألماني. تحولت إلى عامل ألبس بدلة زرقاء وأقف صاغراً إلى جانب عامل صهر المعادن. كنت أطيع أوامره كأنه سيد عظيم، حتى كنت أخدمه وقت الأكل، مع أنني من اسرة ساموراي، ولكنني كنت أخدم اليابان، وفي سبيل اليابان يهون كل شيء.
قضيت في هذه الدراسات والتدريبات ثماني سنوات، كنت أعمل خلالها ما بين عشر وخمس عشرة ساعة في اليوم. وبعد انتهاء يوم العمل كنت آخذ نوبة حراسة، وخلال الليل كنت أرجع قواعد كل صناعة على الطبيعة.
وعَلِم (الميكادو) - الحاكم الياباني - بأمري فأرسل لي من ماله الخاص، خمسة آلاف جنيه إنجليزي ذهباً، اشتريت بها أدوات مصنع محركات كاملة وأدوات وآلات.
وعندما أردت شحنها إلى اليابان كانت النقود قد فرغت، فوضعت راتبي وكل ما ادخرته وعندما وصلت إلى (نجازاكي) قيل لي: إن (الميكادو) يريد أن يراني. قلت: لن استحق مقابلته إلا بعد أن أنشئ مصنع محركات كاملاً.
استغرق ذلك تسع سنوات وفي يوم من الأيام حملت مع مساعدي عشرة محركات (صنع اليابان) قطعة قطعة، حملناها إلى القصر، ودخل الميكادو وانحنينا نحييه وابتسم وقال: هذه اغرب موسيقى سمعتها في حياتي، هذا ملكنا (الموديل) وهو سر قوة الغرب، نقلناه إلى اليابان. نقلنا قوة أوروبا إلى اليابان ونقلنا اليابان إلى الغرب.
قصة ذلك الطالب أوساهير، التي ذكرها الدكتور علي الراعي في مجلة العربي، والذي استطاع بعدم يأسه وتكراره للمحاولة أن يغير، ليس مسار حياته فقط، بل مسار دولة سكانها أكثر من مائة مليون وتحولت من دولة مستهلكة لما ينتجه الغرب إلى دولة مصدرة ومتطورة يحسب لها الغرب ألف حساب.
بل أصبحت اليابان نموذجاً فريداً في العديد من المجالات، مثل الإدارة الصناعية والتعليم والاستثمار. وكانت الانطلاقة الأولى لتلك الثورة الضخمة التي حولت اليابان من الفقر المدقع إلى الثراء الفاحش، هي اصرار ذلك الطالب أوساهير على النجاح وعدم اليأس وعدم استسلامه للفشل في المحاولة الأولى.
وعموماً نحن لا يشكل الغرب ولا الشرق قدوة لنا فلنا في تاريخنا المجيد وديننا الحنيف صور أكثر روعة ودهشة من قصة أوساهير، ولكن ذلك لا يمنع أن ننظر بإعجاب إلى تلك التجربة، علنا نستخلص منها العبر والدروس وليس ذلك فقط, بل ننتقل من مرحلة الاعجاب والإشادة إلى التطبيق الفعلي. ويظل العمل والسعي أهم عاملين يساعدان الإنسان في الوصول إلى هدفه.. أما الاستسلام واليأس والركون إلى الفشل فلا يتحقق معها إلا المزيد من الفشل والمزيد من الهم والغم.
مشكلتنا اننا من أول محاولة فاشلة أو الثانية نركن إلى الاستسلام واليأس ونقول إننا عملنا كل شيء، ولا نستمر حتى الوصول إلى الهدف.. فالعالم اللغوي الكسائي عندما فشل في تعلم النحو جلس ذات يوم إلى جذع شجرة، وقد أكله الهم وحاصره اليأس، وهو يرى عدم قدرته على استيعاب النحو.
وبينما هو كذلك رأى نملة تحمل كسرة خبز، كلما حاولت أن تصعد الشجرة تسقط، وتكرر المحاولة تلو المحاولة حتى نجحت في الصعود إلى أعلى الشجرة. فقال: يا إلهي! هل عجزت أن أكون مثل تلك النملة؟ فشمر عن ساعده واجتهد ودرس حتى اصبح من كبار علماء النحو الذين خلفوا لنا أثراً علمياً ونحوياً ضخماً.
وكذلك من يطرق الباب عشر مرات لا بد أن يفتح له في النهاية فلا تيأسوا وانتظروا الفرج بعد الشدة.