أغلق إحدى صفحات الكتاب والنعاس يملأ جفنيه. كانت آخر كلمة استطاع التقاطها هي «الشمس تشرق ثانية» في أحد أعمال همنغواي، كان قد التقطه من إحدى الدور المتوارية في معرض الكتاب الأخير..
لم ينم؛ صوتٌ يدعوه إلى أن لا تقرأ الأخبار أو تسمعها؛ لا شيء يجعلك متبلد القلب والعقل معاً ويخدر المشاعر أيضاً مثل تكرارها. مهما افترضت أنها فبركات إعلامية لقنواتٍ موجهة، أو حتى إثارة تنبئ عن أفعالٍ سينمائية، فأنت تقرأ أو تسمع بسرعةٍ خاطفة مع قهوة الصباح أو شاي المساء عن سقوط مائة قتيل..
لا تقرأ شيئاً عن سقوط بيوتهم إلى الأبد، أو أنهم فقدوا صور الجد والجدة المعلقة في صدر مجلس العائلة منذ سني الطفولة، وصور العائلة والذكريات التي تختزلها كل صورة مهما بلغ سوؤها، ولا حتى عن الذين دُفنوا أشلاء تحت ركامها.. وعن وعن و.. كل ذلك قد لا يستحق الذكر إطلاقاً من تلك المذيعة الجميلة التي تدربت جيداً على افتعال الحزن حتى لو كانت على موعدٍ ما بعد ذلك، ولا متسع لديها من الوقت لتفاصيل العمر والحياة؛ لديها الوقت فقط لتفاصيل الموت لتبلغك به.
الموت لا يستطيع الانتظار، لديه أوامر عاجلة من محبي الخراب ومخططي الفوضى والاستلاب الذين يريدون محو البلدان ليحلوا مكانها أسماء جديدة، هكذا بكل بساطة، كلعبة التراكيب!..
انقلب على شقه الأيسر؛ لعله برؤيته زوجته المعلمة التي سبقته بالنوم منذ أكثر من ساعتين يتخلى عن لوك تلك الأفكار التي قضّت عليه مضجعه.. لكن أفكاره انحرفت لمنحى آخر، فالقتل والخراب لم يوفرا أحداً، ولم تُبقِ الحروب حلفاً دون آخر ومستقبلاً دون آخر، ولم توفر الحداد واللوعة على فريق دون آخر، فالموت هو أبسط الوجوه في الحروب بلا استثناء، عبثيها ومقدسها وما بينهما!؟ وهل ثمة مقدس في الموت!؟ عجبي.. أقسى من الموت المذلة التي تتركها فيمن بقي في نفوس الأحياء، تجارة البشر حول العالم ورؤية الأمهات يتسولن لأفواه الجائعين على أبواب المطاعم وبيوت الموسرين.
زاد فزعه؛ تذكر ذلك الرجل الأنيق ذا الشعر الأشيب - رغم صغر سنه - الذي كان يقف باعتداد في الموقع نفسه كل يوم عند الإشارة محملقاً بالجميع، لا يمد يده ولا يسأل الجميع، عندما سأله بعد مرور أيام أن يساعده في شيء؟ ليأتيه الرد صاعقاً: أبداً ربما بثمن رضعة حليب لابني الرضيع!.. وأردف: كنا نملك مبنى من خمسة أدوار في سوريا، والآن هو رماد.. لم يرد ذكر هذا الرجل في الأخبار ولا الآلاف مثله.. لن ترد أسماء القاصرات.. لن ترد أعداد الجياع ولا ماذا يقتات من يسد الرمق.. الأخبار شريط مسموع ومقروء، يمر بسرعة مسلسل يومي بلا روح ولا قلب..
قام لا شعورياً يطمئن على أبنائه. رجع وتذكر انفعال تلك المذيعة المسكينة وملامح وجهها وانكسار عينيها وهي تقرأ عن فظاعةٍ وحشية أخرى، لكن هذا كل ما تستطيعه؛ فهي تقرأ مثلك ومثلي أخبار هذه الأمة في الصباح والظهيرة والمساء ومنتصف الليل وفجر اليوم التالي وضحاه.
ظلام دامس وليل دائم. الجزء الدائم المعتم من الكوكب.
«الشمس تشرق ثانية»، نعم صحيح، كما قال ذلك المهووس همنغواي ذات موقف خذلان محبطاً، لكن ليس هنا.. فلدينا ظلام هو نشرات أخبارنا!!..
- سليمان الهويريني