عندما نقول بأن الربا هو سمة العصر الرأسمالي، فإننا لا نطلق شتيمة، وإنما نثبت حقيقة أساسية من حقائق هذا العصر.
وظاهرة المرابي كما هو معروف، هي: تعبير عن وجود أزمة اجتماعية؛ سواء أكانت تتناول فردًا وأُسْرته، أم شعبًا برُمَّته، أم عالَمًا بأجمعه، هي كارثة فظيعة تترتب عليها نتائج متعددة.
وما هو أشد فظاعة أن يمتلك المرابي موقع القيادة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. عندئذ تغدو الأزمة نظامًا اجتماعيًّا له قوانينه وثقافته وعلاقاته، وفنونه وسيكولوجيته وسيسولوجيته التي تخدم جميعها نظام الربا.
إن العالم الذي نعيش فيه اليوم محكوم بنظام عالمي ربوي، وتقوده مؤسسات مرابية لها مصلحة باعتبارها مرابية في تعميق أزماته أكثر فأكثر.
إن السمة الربوية البارزة تبرز في هيمنة الشركات المتعددة الجنسيات على الحياة العالمية، فهذه الشركات تسيطر على مجمل العلاقات النقدية والمالية الدولية؛ من خلال المصارف عابرة القارات أيضًا.
فالشركات المرابية لا تقوم بوظائف مالية نظيفة، وإنما هي تتلاعب بالاحتياطيات النقدية العالمية، وتتحكم باتجاهات توظيفها بأساليب احتيالية لفترات قصيرة، فتتسبب بتأزيم الأوضاع المالية والنقدية للبلدان الفقيرة تأزيمًا خطيرًا، يجعلها أكثر طواعية في قبضة المؤسسات العالمية الحاكمة.
إن الشركات المتعددة الجنسيات تسيطر سيطرة تامة على حوالي نصف التجارة الدولية؛ إذ تقوم بتسويق 90% من أهم السلع الأساسية التي تصدِّرها بلدان الجنوب الفقيرة، بينما تسيطر الحكومات الصناعية على معظم نصف التجارة الدولية الثاني.
ومن المعلوم أن الدول الصناعية هي المالكة للشركات المتعددة الجنسيات، وأن أذرعها المالية والنقدية تتحرك طليقة داخل هذه الشركات.
لقد تبين خلال عشر سنوات مضت أن الشركات المرابية استردت 2,5 دولار مقابل كل دولار واحد وظفته في البلدان الفقيرة.
إن إنسان هذا العصر لا يمكن أن يصدق أن إدارات النظام العالمي لا تعي خطورة تدمير بلدان جنوب العالم، ولكن الحالة تصبح مفهومة في ظل حقيقة أساسية، هي: ربوية وعالمية هذا النظام العالمي.
لقد أُبيدت مجتمعات لصالح نهوض مجتمعات، ودُمِّرت قارات لصالح بناء قارات، وسُحقت طبقات في سبيل حياة طبقات، وصُفِّيت احتكارات أدنى من أجل دعم احتكارات أعلى.
إن ميكانيكا النظام العالمي الباردة الصماء تنضح ثروات جنوب الكرة الأرضية بلا أدنى هوادة، بيد أنها لا تريد لهذا الجنوب أن ينضبَ، وهو وللأسف قد أوشك على النضوب!!
إنهم يستعبدون سكان الجنوب إلى درجة التحكُّم بأنفاسهم ونبضات قلوبهم.
إنهم يلوثون البيئة العالمية بصناعاتهم ونفاياتهم ونمط حياتهم في الشمال، ويدفعون بالكرة الأرضية إلى مهاوي كارثة إيكولوجية.
إن النضح العشوائي التبذيري المتلاف لثروات جنوب العالم قد تجاوز النقطة التي كان يتوجب إيقافه عندها قبل زمن طويل، فكيف ينتفعون بالجنوب بعد أن ينضب ويتعرَّى كالبادية الجرداء؟!
إن الشركات متعددة الجنسيات لا يمكن أن تُفهم بشكل جَلِي، دون استجلاء كافة التأثيرات التي تتركها في ساحة نشاطها؛ إذ إن هذه التأثيرات لا تقتصر على الجانب الاقتصادي فحسب، وإن كان يعتبر أحد الحوافز الرئيسية لنشوئها؛ حيث إن نشاطها وطريق تنظيمها وإدارتها يؤدِّي إلى تأثيرات ذات طابع سياسي واجتماعي عميق.
إذ تعتبر الشركات عابرة القارات أحد أرقى الأشكال الاستثمارية المعاصرة للرأسمالية، وقد بدأ نشاط هذه الشركات بعد الحرب العالمية الثانية.
إن المعيار الذي يضبط النشاط الاستثماري للشركات متعددة الجنسيات من حيث اتساع هذا النشاط أو تقلُّصه، هو معيار حجم الإنتاج الدولي.
يقول سامي هابيل في كتاب (السمات الراهنة للعصر الرأسمالي): إن التعليل المنطقي لأسباب نشوء هذه الشركات يندرج في إطار فَهم طبيعة الأهداف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لهذه الشركات، ودورها في خدمة النظام الرأسمالي طبقًا للمبدأ القائل: ليس لرأس المال وطن، بل وطنها سوق الاستثمار.
وقد أشار تقرير منظمة الأونكتاد حول سيطرة هذه الشركات بقوله: توجد في الوقت الراهن حوالي 15 شركة تجارية كبيرة تتحكم بـ90 % من تجارة القطن العالمية، وثلاث شركات تتحكم بـ 75 % من تجارة الموز، وخمس شركات تتحكم بـ 75 % من تجارة الكاكاو، وست شركات تتحكم بـ90 % من تجارة التبغ والدُّخان. إن مجمل خسائر الدول النامية بسبب تحكم هذه الشركات يقدر بحوالي 50 - 100 مليار دولار سنويًّا.
وقد أوضحت مؤشرات الجداول الإحصائية الصادرة عن الأمم المتحدة عن حجم الدور الذي تلعبه هذه الشركات في صادرات البلدان النامية، وبيَّنت أن 85 % من تجارة المواد الغذائية يتمُّ تصديرها عن طريق هذه الشركات، كذلك 90 % من تجارة المواد الخام الزراعية، و95 % من المواد المعدنية والخامات.
والمشكلة هي ترافق تطور التقنية في العالم مع نشوء الشركات متعددة الجنسيات؛ حيث حولت التقنية من أداة إيجابية لتطوير المجتمعات، وخدمة التقدم البشري إلى أداة ابتزاز واستنزاف لشعوب البلدان النامية.
فقد قامت هذه الشركات على أساس توحيد السوق الدولية للتقنية وإخضاعها لعوامل الاحتكار.
والدور الخطير الذي تقوم به هذه الشركات هو تحويل أدوات التقنية إلى سلعة تجارية لا أداة علمية، وخطر ذلك يكمن في الآثار الثقافية وأساليب التفكير لدى مجتمع البلد المستورد.
فقد أوضحت الدراسات الصادرة عن منظمة الأونكتاد أن مشروعات الاستثمار وتأثيراتها الناجمة عن استخدام التقنية كانت سلبية في البلدان النامية.
إضافة إلى ما تلعبه الشركات متعددة الجنسيات من أدوار في مجال إحباط أيَّة إمكانية للاستفادة من التقنية لنهوض صناعي مستقل في البلدان النامية.
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية