قال لي ولدت ونشأت في البادية، تعفرنا بالتراب، وتوحدنا مع حبات الرمل، عرفنا بيوت الشَعر المتناثرة كقطع شطرنج، عاصرنا الريح الجافة، والبرد والهجير، والعوز والفاقة، والغامض المجهول، ننتظر مواسم الأمطار، حينها يجيء العشب، وتجيء القوافل حاملة معها الملح والسكر والحنطة، لم نُدرك يومها المعاني الكبيرة للحياة، هكذا ولدنا، نجمع الرمل من أطرافه، حوافّ الصحراء ساحة صراع غير معلن بين الرمل والبلل والناس، قد يؤدي إلى استقرار القبيلة قرب الغدير لحين استكمال رحلتها القادمة، نحو الغيمة البعيدة، التي قد تسقط مطراً وقد لا تسقط، نخاف من العطش كنا ونرتعب، فالبادية ليست على الدوام رحيمة بأبنائها، لقد درجت على التعامل معهم وفق إيقاع حياتها بقسوة وألم وتعب، هكذا استمرّت حياتنا وفق ضنى متعب، لقد وُلدنا أطفالاً، لا نشعر بالدفء في بيوت شعر باردة، كجزء من مفردات الحياة اليوميّة، لا نتململ من حبات الرمل في عيوننا وطعامنا، ألفنا العيش وسط أكوام تتشابك وتختلط فيها التعب والخوف والحاجة، كنا نحن الأطفال، نقلّد كبارنا ونمسك بأطراف الخيوط ونتبارى بمعرفة سنّ الحيوان وطعامه والجهة التي قَدِم منها، لقد علمونا مهنة الرعي والصبر والجلادة وقول الشّعر وتذوّق الجَمال، تارة كنا نستعير العشق برسم قلبٍ على حبات الرمل، وتارة نضيء الخيوط في زوايا الطبيعة ونأخذ من الماء والعشب وخدود الورد الربيعي ألوانها، وثالثة نرمز إلى أحلامنا القلقة وفق طقوس وتعابير لا نعرف ماهيتها، في نسيج الحياة اليومية للبادية تعدّد خانات ودرجات الإهمال للتطلع، بفعل عوامل الخوف والارتياب والشك من الآخر، هذا التوجّس أنتج بدوره حكايات مبالغا فيها مليئة بالشك والارتياب واللغز، وإشاعة قصص وحكايات مبهمة غامزة، وكثيرا ما تُسمع مرّ الشكوى بسبب انحباس المطر وكساد الحياة، أو نلحظ تملْمل الناس من الظروف بسبب عدم موائمتها، لكن سرعان ما يعودون لممارسة الحياة المعتادة رغم شظف العيش وقسوته ورعبه، لكن بحذر وحيطة، وعلى الرغم من كثرة المشاكل الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي تواجههم، إلا أنّهم للحق لم يهملوا مساعدة بعضهم البعض، ومؤازرة بعضهم الآخر، على قدر الاستطاعة والإمكان، تجلّى ذلك في قصائدهم التي كانت بالنسبة لهم إعلام، ووسائل تواصل اجتماعية، الحياة في البادية ثقافة إنسانيّة خاصة وعميقة تحوّلت بمرور الأعوام إلى مجرد مفردات حكيٍ بين أفراد القبيلة الواحدة، بل تفاصيل ألوانها التي يغلب عليها الرماد، في ظل هذه الدولة الكريمة التي وحدها الموحد عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، ووحد قبائلها التي كانت متناحرة ومتباغضة ويسودها الدم والثأر والعداء، حتى جعل منها كتلة وحدوية نادرة في التلاحم والتآلف والتعاون والمصير المشترك، لقد تحولنا كثيراً من البداوة إلى الحضارة، ومن القبائل الكثيرة المتعددة والمتنافرة والمتخاصمة، إلى مجرد قبيلة واحدة يسودها الحب والوئام والمصاهرة، حتى اقتربنا من سقف الواقعية السحرية، بعد تعاقب زمني مضني طويل، لقد زرعنا البساتين، وبنينا القصور، وتركنا أبوابها مشرعة، أمناً وأماناً ورخاء، لقد اعتلينا ناصية المجد، مع هذه الوحدة النادرة والفسيفساء المترابطة العظيمة كتبنا أسماؤنا بمداد العز والشرف، دعني أقول لك بعيداً عن قوالب السردية التقليدية، لقد تغيرت حياتنا بفعل الأفعال الدراماتيكية المتسارعة، خضنا غمارها، وتنقلنا بين الفيافي الموحشة الطويلة، نبحث عن ملاذات آمنة، ونشرع من بزوغ الشمس وحتى أفولها، ابتغاء لهذا الغرض، لكننا في كثير من الأحيان نسقط في هذا الامتحان الصعب ونفشل، حتى وجدنا أنفسنا في ظل هذه الدولة الكريمة، متحررين من قيود الخوف والجفاف والعوز والظمأ، وها نحن نقدم الإخلاص بحب وسعادة، وننسج روابط وثيقة لأولياء الأمر في الوداد والاتحاد، لقد تنفسنا معهم الهواء النقي، بعد أن واجهنا كل ألوان الشقاء والمطاردة والتعسف والمتاعب، في بيئة صحراوية متناقضة، وحاضنات جغرافية متباينة، وثارات وحروب ودم، الآن نحن نعيش في جنات من نخيل وأعناب وأشجار وثمار وحياة بهيجة، في منأى عن الخوف والتوجس والحذر، بعد أن كانت عيوننا تبحث في سراب الأفق عن غيمة حبلى بالمطر، أو عشبة بالكاد يانعة. إن مما يثير دهشتي وحفيظتي تلك الأبواق البائسة السطحية القاصرة الهزيلة، التي تريد أن تأخذنا نحو الهاوية، إلى تلك الأزمنة الغابرة، بعيداَ عن الواقعية والحلم والنظرة الثاقبة، هم ليسوا سوى طائشين، يتلاعبون بالمفردات المهلكة، يريدون أن يعيدوننا إلى مواسم الجفاف والتصحر، هؤلاء يتدفق الكلام من أفواههم مثل تدفق الماء من حنفية يسابق ماؤها هواءها المحبوس فيها، فتنفث ريحاً أكثر مما تنفث ماء، ما نعيشه الآن مقارنة بالماضي التليد السحيق، يجعلني أتساءل: كيف تشيخ عقول هؤلاء باكراَ؟ وأين هي مؤهلاتهم العقلية والمعرفية والأخلاقية والسمات الإنسانية والوطنية؟ لماذا يتجحون بالأقوال والتنظيرات والأصوات والتنبؤات؟ الغريب في هذا الحشد أنهم ذوي ألوان باهتة بائنة ومتنافرة، توهموا أنهم في أقوالهم وأطروحاتهم وهرطقاتهم وتجديفاتهم يشترون العقول، ترى على أي نحو يفكر هؤلاء؟ هل يسعون للبناء؟ أم للهدم؟ أم لإشاعة الهبل؟ المتمثل في كلامهم الذي هو المعادل لانعدام الوعي، ألا يعرفون أن الإنسان المثقل بالهموم، بحاجة إلى التمتع بثمار الإبداع، والبحث عن ما يجلو الروح ويصفيها، وينقيها من الشوائب والأدران، بعيداً عن ما يصدر من العقليات البليدة المنفصلة عن الزمن، والغارقة في الطيش والجهالة، أنى لهؤلاء العودة إلى المحبة والتسامح، وتصليح خطاباتهم المتشنجة والغارقة بالسواد، والداعية للويل والثبور وعاقبة الأمور، والمهددة بالسحق والإبادة، وتحويلها إلى خطابات تطويرية مبهجة للمستقبل، من أجل بناء المجتمع، لماذا لا يفعلون العقل والحكمة؟، بعيداً عن الجنون الذي تتواتر به أبجدياتهم، وعن الجرأة في التمرد، أن جل ما يقولونه مسلوخ عن الحقيقة والأرض والواقع، إنني أقول لهؤلاء الذين لا يبالون للفوضى والشتات والخراب في سبيل هراءهم المقيت، وعقولهم الجافة، وفكرهم اليابس، عليهم أن يرشدوا، ويعدلوا سلوكهم، ويفكروا جيداً بأن الموحد رحمه الله ونسله من بعده قد ذللوا الصعاب، وقهروا الظروف، وافنوا أعمارهم في سبيل أن ننعم بالأمن والرخاء والعزة والسؤدد كما نحن الآن، وكما سنصير إن شاء الله، لقد تعبوا كثيراً في رسم الصور الزاهية لبلادنا، وتعزيز مسيرتها الوطنية الصادقة، بصفاء قلوبهم المفعمة بالحب والوفاء، ولأنهم المعين المتدفق بعطاء الطاقات الاستثنائية النادرة، لذلك نرى أنهم من أهم مقومات النجاح والتألق في هذا الزمن الاستثنائي، أن مستقبلنا معهم سيكون مضيئاً، وفجرنا سيكون جديدا، وشمسنا ستكون جديدة، وآمالنا ستكون جديدة، يجمعنا وإياهم حب الوطن بحدوده واتجاهاته الأربعة، ومناخه وتضاريسه، الذي هو معهد الحضارات وينبوعها، مصدرها وإشعاعها، منارتها مرساها وهداها.
ramadanalanezi@hotmail.com ** **تويتر @ramadanjready