لدى إلقاء نظرة شاملة على مراحل تطور الكيان الصِّهْيَوني خلال أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، يتضح من خلال عملية بنائه اقتصاديًّا وتقنيًّا وعلميًّا وعسكريًّا، أنه أعدّ ليمارس دورًا توسعيًّا يتجاوز حدوده الجغرافية، وحاجات المستوطنين المقيمين فيه.
فهو لم يقم كملجأ ليهود العالم يلوذون به؛ لعيش حياة يهودية سلمية، ولا لتحقيق أسطورة توراتية بالعودة إلى أرض صِهْيَون - أرض الميعاد، زعموا، ولا لتحقيق شعارات صِهْيَونية بإقامة المركز الروحي، وتحقيق مركزية إسرائيل في حياة الشعب اليهودي.
فقد كانت هذه كلها ديباجة عاطفية لحمل يهود العالم على الهجرة إليه والمساهمة في بنائه ماديًّا ومعنويًّا، ولتضليل الرأي العام العالمي؛ تبريرًا لاغتصاب الوطن الفلسطيني من أصحابه الشرعيين، وتغطية للأهداف والأدوار الحقيقية التي أسندت إليه.
يقول الأستاذ سمير جبور في كتابه (مخططات إسرائيل الاقتصادية): وإذا كانت ثمة قيود على المطالع الإقليمية للحركة الصهيونية، فإنه لا حدود لمطامعها الاقتصادية. فالتطلعات الاقتصادية الصهيونية إلى السيطرة على ثروات العالم العربي وخيراته، ومصادره الطبيعية وطاقاته البشرية، وتسخيرها في خدمة الأهداف الصهيونية لم تكن وليدة الساعة، ولا وليدة المسار الذي بدأ بزيارة السادات للقدس.. فهذه التطلعات وُلدت مع الحركة الصهيونية، بل قامت عليها. وهي ملازمة أيضًا لطبيعة الكيان الصهيوني الذي لا يستطيع البقاء إلاّ بتوفير الرقعة الاقتصادية الأوسع على حساب العالم العربي طبعًا. لقد كان التصور الصهيوني للدولة الصهيونية حتى قبل قيامها قائمًا على مبدأين أساسيين، أولهما: أنه يجب أن تكون موارد هذه الدولة من الكثرة والتنوع، بحيث تتمكن من استيعاب أعداد كبيرة من السكان، وتوفير مستوى معيشي مرتفع لهم، وتأمين الحاجات المعقدة للدولة الحديثة، وثانيهما: أنّ الموارد الحيوية لهذه الدولة؛ كالماء والنفط، وغيرهما من الثروات الطبيعية - يجب أن تكون تحت سيطرتها؛ أي: واقعة ضمن أراضيها.
ومنذ أن قامت الدولة الصهيونية وهي تتطلّع إلى المزيد من الموارد في إطار من الطموح إلى السيطرة عليها؛ أي: احتوائها ضمن الكيان الصهيوني، مما يشكّل حافزًا آخر مستمرًّا نحو التوسُّع. ومن هنا عمل الكيان الصهيوني على تحويل مجرى نهر الأردن، وتطلّع إلى استغلال قناة السويس والمطالبة بحصة من مياه النيل والليطاني، وطمع في الثروة البترولية العربية، والإفادة من طريق التجارة التاريخية بين الشرق والغرب، برًّا وبحرًا وجوًّا.
أما خارج السيطرة المباشرة فتطمع الصهيونية العالمية في أن تجعل من كيانها مركزًا للصناعة والمال والخدمات بالنسبة إلى المنطقة بأَسْرها؛ سعيًا لتوسيع رقعتها الاقتصادية. وفي الحقيقة إنّ عملية بناء اقتصاد الكيان الصهيوني قد بدأت قبل قيام إسرائيل، لا بل إنّ إقامة أساس البنيان الاقتصادي بدأت خلال فترة الانتداب البريطاني في فلسطين (1918-1948).
وقد أتاحت حكومة الانتداب لليهود في فلسطين إقامة مؤسساتهم الاقتصادية، وكانت الوكالة اليهودية القناة الرئيسية لجمع الأموال، وتسهيل عمليات الهجرة العلنية والسرية، وبالتالي انتقال الأيدي العاملة التقنية.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، كانت المشاريع الاقتصادية اليهودية خلال سنتين فقط، فيما عدا فروع المعادن والكهرباء، تشكّل ثلث عدد المشاريع الصناعية في فلسطين، ووظفت فيها 64% من أموال الاستثمار، وكانت تنتج 44% من المنتوجات.
وعلى حد قول نداف هليفي: إنّ المؤسسات العامة كانت تعتبر خلال فترة الانتداب أنّ التنمية مسار يتخلله وضع الأساس الاقتصادي بواسطة المهاجرين الجدد، وتدفُّق الأموال من الخارج، وهذا الأساس الاقتصادي يتيح المزيد من الهجرة والنمو الاقتصادي المتواصل.
وعندما أعلن قيام إسرائيل كانت هناك بنية اقتصادية قائمة، أمكن تطويرها بوتيرة سريعة بعد تدفّق المهاجرين والأموال والسيطرة على الممتلكات العربية، بما فيها المشاريع الصناعية والشركات والأراضي ومصادرتها بموجب قانون (أموال الغائبين). ثم شهدت فترة ما بعد قيام إسرائيل تطوير الدوائر الاقتصادية التابعة للوكالة اليهودية، وإقامة جهاز اقتصادي حكومي كامل بقوانينه ونظمه.
يقول سمحا إرليخ - وزير مالية سابق - إنّ إسرائيل حصلت منذ إقامتها على أموال بمبلغ حوالي 40 مليار دولار، جاء 16 مليار دولار منه؛ أي: 41% من مصادر يهودية على شكل تبرعات واستثمارات وتحويلات المهاجرين، وجاء 12 مليارًا؛ أي: 30% من المساعدات بصورة هبات وقروض من حكومة أمريكا.
ونحو 5.6 مليارات دولار؛ أي: 14% من الحكومة الألمانية.
وأما المليارات الستة الباقية، فقد استطعنا الحصول عليها من سوق الأموال العالمية والمؤسسات الدولية. وللأسف، فقد استطاعت إسرائيل بواسطة هذه المساعدات وإعداد المهارات الفنية، وبواسطة شبكات التعليم المهني، والمعاهد المختلفة على جميع المستويات - قطع شوط بعيد في الإنتاج الصناعي والزراعي.
وفي أعقاب حرب 1956م، انطلقت إسرائيل إلى معالجة مشكلات الاقتصاد البعيد المدى. وقد أدت حرب 1967م إلى جانب توسيع رقعة إسرائيل الجغرافية والاقتصادية إلى ربط اقتصاد المناطق المختلفة باقتصاد إسرائيل، بما ينطوي عليه هذا الربط من فتح أسواق جديدة؛ لتصريف منتجاتها، وتشغيل أعداد كبيرة من الأيدي العربية العاملة الرخيصة في المشاريع الاقتصادية.
وفي السبعينيات وضعت الحكومة الإسرائيلية خطة اقتصادية قوامها خفض التضخم بنسبة 23%، وزيادة الصادرات بنسبة 20%، وخفض العجز التجاري بمقدار 200 مليون دولار، وعدم رفع علاوة الأجور، وتباطؤ في العمالة مع المحافظة على العمالة الكاملة ورفع الأسعار بنسبة 20%.
وتقوم هذه الخطة التي سميت الانقلاب الاقتصادي على الإصلاح الشامل لأنظمة العملة ويشمل:
1- إلغاء الرقابة على العُملات الأجنبية.
2- تعويم قيمة صرف الليرة وخفضها بنسبة 44%.
3- توحيد قيمة الصرف.
وقد أعلن سمحا إرليخ أنّ الخطة الاقتصادية الجديدة ستجعل من إسرائيل سويسرا الشرق الأوسط. لذا يعتبر الإسرائيليون التبادل التجاري بينهم والدول العربية، في حال قيام السوق شرق أوسطية والتعاون المشترك - الركيزة الأساسية لتحقيق أطماعهم الاقتصادية في العالم العربي.
ففتح الأسواق العربية أمام السلع والمنتجات الإسرائيلية -حلم طالما راودَ الإسرائيليين منذ أن أخذوا يعززونه ببنيتهم التحتية الصناعية. فهم يعلقون أهمية خاصة على التبادل التجاري لغزو الأسواق العربية؛ من أجل تقليص اعتمادهم على المعونات الخارجية، والاقتراب من الاستقلال الاقتصادي.
ويرتكز مفهوم الإسرائيليين الخاص بالتعاون الصناعي مع الدول العربية على ميزة التفاوت القائم بين الصناعة الإسرائيلية، والصناعة العربية بصورة عامة، فالإسرائيليون ينظرون إلى الصناعة العربية على أنها متخلفة، وغير قادرة على منافسة صناعتهم.
على الرغم من أنّ معاهدة الصلح المصرية الإسرائيلية قد نصّت على ضرورة إعادة حقول النفط إلى مصر، فإنّ إسرائيل حرصت على ضمان استمرار تدفق إنتاج آبار النفط في سيناء فحسب، بل تعداه إلى نفط مصر بأَسْره.
وعلى حد تعبير موشيه زنبار: أنّ المنتج الأساسي الذي يحتاج إليه من المصريين هو النفط، والمقصود النفط المصري عامة، لا نفط سيناء فحسب.
ومن جانب آخر فإنّ الخبراء الإسرائيليين بالشئون المائية والزراعية يجمعون على أنّ إسرائيل تواجه منذ فترة أزمة خطرة في المياه. وقد صرح أبيشع كالي أنّ توفير المياه اليوم غير مضمون لجميع المناطق، وإذا لم يتم تحوّل فوري في السياسة المائية، فقد نواجه أزمة قد تصل إلى حد الكارثة.
وإزاء هذه الأزمة اتجهت أنظار إسرائيل إلى المياه العربية، وظهرت دعوات إلى تحويل روافد نهر الأردن قبل أن تصب في بحيرة طبريا، وكذلك إلى استغلال مياه الليطاني والحاصباني، وإلى جر مياه النيل إلى النقب.
هذه بعض تطلعات إسرائيل الاقتصادية، والأحداث الأخيرة والاتفاقات المصادق عليها مع بعض الدول العربية والدعوات العريضة لسوق شرق أوسطية وتصدير المنتجات الإسرائيلية في بعض الدول العربية شواهد على هذه التطلّعات.
- المستشار الاقتصادي وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية