تتعرض الأجساد للأمراض التي تنهكها وتأخذ منها مأخذاً يذهب بكثير من رونقها وجمالها وعافيتها فإذا ما يسّر الله المبادرة في مكافحتها ومداواتها خَفّ أثرها وانطفأ أذاها وزال بإذن الله سقمها وبأسها وعادت مع مرور الأيام صحتها وعافيتها.
أما تجاهلها فإنه يؤدي إلى استفحالها وعظم أذاها حتى يُخشى أن تُهلك الجسم أو تكاد!
وفي الأمم والمجتمعات والكيانات تظهر أمراض وأوبئة وتتمدد في أرجائها إذا لم تحظَ بالمكافحة والعناية والمتابعة والمعالجة.
والأمراض قد تتطور ولكن لا تكاد تختلف أسبابها في الماضي عنها في الحاضر، والفساد من أشد الأمراض والأوبئة التي تفتك بالمجتمعات!وتقضي على مرتكزاتها وتهدم أركانها.
ولهذا تكاد تتفق أسبابه في الماضي مع أسبابه في الحاضر مع شيء من التنوع في الوسائل والأساليب وفقاً لمتطلبات العصر!! ولكننا أمام سائر الأمراض نحتاج إلى أمر مهم جداً وهو التسخيص الصحيح. لماذا؟! لأن التشخيص يترتب عليه تعيين الشيء وتمييزه وتحديد أبعاده والإحاطة به. فإذا كان سليماً ترتب عليه ما بعده من الإجراءات الوقائية والعلاجية.
على أنه ينبغي التنبه إلى أن صحة التشخيص لا بد أن يصاحبها صحة تطبيق تعليمات المُشخِّص وإجراءاته العلاجية والوقائية لتؤتي أُكلها كلّ حين بإذن ربها!
ولقد أدرك ذلك أهل الحل والعقد، والحكمة وسداد الرأي وكبار السن الذين عركتهم الحياة عرك الرحى بثفالها حتى سطروا من واقع خبرتهم وصميم تجربتهم ما يضيء للأجيال دروبهم، ويختصر على من بعدهم مسارات من الحياة طويلة.
ليبدؤوا من حيث انتهى من سبقهم ويستلهموا من تجاربهم منهجاً قويماً به ينتفعون.
ومن أولئك الأفذاذ الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود طيب الله ثراه الذي أسس كيان المملكة العربية السعودية وبذل في سبيل توحيدها وإرساء قواعدها الغالي والنفيس.
ولا شك أنه رأى خلال رحلته الطويلة مفارقات عجيبة تحيط بالشعوب والمجتمعات، وأحداثاً جسيمة توجد غالباً في معظم التجمعات البشرية والكيانات الدولية في مختلف أصقاع العالم.
ما جعله يُشخص الواقع تشخيصاً دقيقاً حيث قال رحمه الله في الخطاب الذي ألقاه في القصر الملكي بمكة المكرمة عام ???? هـ:
«إن المسلمين متفرقون اليوم طرائق بسبب إهمالهم العمل بكتاب الله وسنة رسوله، ومن خطل الرأي الذهاب إلى أن الأجانب هم سبب هذه التفرقة وهذه المصائب؛ إن سبب بلايانا من أنفسنا لا من الأجانب، يأتي أجنبي إلى بلد ما فيه مئات الألوف بل الملايين من المسلمين، فيعمل عمله بمفرده، فهل يُعقل أن فرداً في مقدوره أن يؤثر على ملايين من الناس إذا لم يكن له من هذه الملايين أعوان يساعدونه ويمدونه بآرائهم وأعمالهم؟!
كلا ثم كلا، فهؤلاء الأعوان هم سبب بليتنا ومصيبتنا، أجل إن هؤلاء الأعوان هم أعداء الله وأعداء أنفسهم!»أ.هـ
لقد أجمعت الأديان والمجتمعات البشرية على اختلاف ألوانها وأجناسها وأديانها وثقافاتها وعاداتها وتقاليدها على تجريم الفساد، وهو في الحقيقة من أشد الجرائم التي تفتك بالمجتمعات البشرية وتقف حائلاً دون تطورها وتقدمها، وعقبة كأداء في سبيل رقيها وحضارتها.كما أنه يعدي كما يعدي الصحيحَ الأجربُ!!
وإذا ما شُخِّص الداء فيجب أن نحدد له الدواء ونُحسن استخدامه بمقاديره المناسبة وأساليبه الناجعة.
إن معظم أنواع الفساد لا تولد داخل المجتمعات؛ ولكنها دخيلة عليها، يدعمها من لا يقيم وزناً لدين ولا وطنية ولا عادات ولا تقاليد؛ بتأييده وتطبيقه وماله وثقافته وفكره بل حتى برضاه عنها، وإذا كان الساكت عن الحق شيطان أخرس؛ فما بالك بالمشتغل بالباطل؟!
إن أي دخيل فكري أو مادي أو ثقافي أو سلوكي على أي مجتمع لا يمكن أن يؤثر فيه ما لم يكن له من أبناء المجتمع نفسه من يروّج له ويتبناه ويطبقه ويدعو إليه ويتستر عليه.
وهذا ليس مقتصراً على الفساد المادي والإداري والوظيفي؛ بل يتشعب ليشمل الفساد الفكري والسلوكي والخلقي والبيئي والإنمائي والانتمائي... وسائر أنواع الفساد التي ينبغي مواجهتها بتحصين الأفراد بالفكر الصحيح، الرؤية السليمة، القيم الصافية والمنهج القويم.
وتضمين ذلك في الخطاب الإعلامي والمنهج التعليمي والرؤية الثقافية بإسهام المؤسسات التعليمية والإعلامية والثقافية والمجتمعية والأسرية والأفراد بكافة تخصصاتهم كل في ميدانه؛ فذلك سبيل لوقاية المجتمعات مما ينخر كياناتها ويهدم حضارتها وينكأ جراحها.
وأهم وصفة في ذلك الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بفهم السلف الصالح، وبناء الأخلاق، وتعزيز القيم وتقديم المصلحة العامة على المصالح الشخصية والبعد عن كل ما من شأنه النَيل من مكتسباتنا وعقيدتنا ووطننا وحضارتنا وفكرنا.
إن الأمم الناجحة هي التي لا ترفض كل ما عند غيرها؛ ولكن يمكنها الاستفادة من الحضارات الأخرى فيما يعزز تطورها وتنوع علومها ومعارفها وتدريب أفرادها على ما يحقق لأوطانهم الرقي والتطور والتقدم.
فلا ضير من تبني تجاربها الجديدة التي تتوافق والمسلّمات الأساسية والأصالة والقيم وتوظيفها في دعم المسيرة التنموية لها.
كما أن احترام الشعوب الأخرى واجب تحتمه علينا شريعتنا الغراء وتنادي بالعدل في التعامل معهم كما تقتضيه الطبيعة الإنسانية والوجود المشترك على هذه البسيطة.
إن العقيدة الصحيحة والوطنية الصادقة والانتماء الحقيقي والفكر السليم والسلوك القويم والبناء الخلقي كفيل بإذن الله بتجفيف مستنقعات الفساد بشتى أنواعها وتطهير آثارها.
وهذا ما تطمح إليه سائر المجتمعات المتحضرة أن تعيش نقية مزدهرة على أن يستشعر المجتمع بشتى أفراده واجبه المتأكد تجاه ذلك.