إن ما تمخضت عنه أحداث ما يُسمى بالربيع العربي افتئاتاً ما هو إلا نتيجةً لعدم إعطاء هذا الجانب - الإعلامي - الحيوي حقه من التمحيص والتدقيق والغربلة، ومن ثمّ التفنيد حتى يكون الكل على بيّنةٍ مما يُرادُ الخلوص إليه من هكذا أقوال وهكذا أفعال. دائماً ما كنا نسمع ترديد مقولة «النأيَ بالنفس» عن الدخول في مهاتراتٍ مع من ألِفوُا التجني على واقع الأمور وتزييف الحقائق خشية التصعيد اللاّ مجدي، والدخول في جدالاتٍ لا جدوى من ورائها سوى إضاعة الوقت، واستنزاف القدرات والمقدرات. أظن أن رأياً كهذا أصبح الآن وبعد هذه الأحداث الطوام التي لم تعد خافيةً حتى على العوام، لا يمكن لأحدٍ أن يقول بجدواه، وذلك لتعدد الشواهد التي تثبت سابقاً قصورنا في المواجهة الاستباقية للتقليل على الأقل من تأثير تلكم المظاهر السلبية على الفرد والمجتمع على حدٍ سواء.
نرى ويرى العالم من حولنا هذا القدر من التجنّي ومحاولة الحط من قدْرِ مملكةٍ بحجم ومكانة المملكة العربية السعودية في قلب كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. ليس هذا فحسب، ولكن التقليل أيضاً من مكانةٍ عالميةٍ تبوأتها بفضل من الله ثم من ما تجده من حكامها من سعيٍ حثيثٍ ودؤوبٍ لكل ما يُعلي من شأنها بين الأمم قاطبة؛ وليس هذا الجحود والنكران حقيقةً بمستغربٍ ممّن هذا هو ديدنه سلماً كان أو حرباً، لكن المستغرب أن ينجرف بعض من يدّعون الموضوعية والتجرّد من الهوى باسم حرية التعبير عن الرأي، في النَيْل من الحقِ الواضحِ الأبلج، المشرعنِ ديناً وعرفاً وخلقاً بإجماعٍ دوليٍ منقطعِ النظير.
إنها فعلاً الأزمات والفتن والمحن التي تميّزَ الخبيث من الطيّب، والصديق من العدو، والصادق من الكاذب، والمخلص من المُرائي والمخادع! آن الأوان لأن يُقال لأولئك كلهم بصوت مسموع يُفهمُ بكل اللغات.. كفى فقد بِنْتُمْ على حقيقتكم.. والجواب هو ما ترون وتسمعون لا ما يُتخيّلُ لكم وما تُصوّرهُ لكم أحلامكم!!
ما أحوجنا على المستويات الدينية والسياسية والاجتماعية إعلامياً أن نكون على مستوىً لائقٍ لا يقلُ شأناً ولا مكانةً عن ما هي عليه بلادنا السعودية العامرة في واقعنا المعاصر من رفعةٍ وموثوقيةٍ ومصداقيةٍ. لقد أفصحتْ عاصفة الحزم عن مكنوناتِ بعض ما في نفوس أولئك الموتورين (وما تخفي صدورهم أكبر)، ممّن لا تعجبهم النجاحات، فتزيدهم غيظاً على ما في قلوبهم من أحقاد وضغائن؛ لكنها أيضاً أظهرت وبجلاء نقاوة وصفاء معادن من حفظوا لهذه القيادة وهذه الريادة جسامةَ مسؤوليتها، وأحقيةَ تصدّرِها يوم أن هبّت للوقوف شامخةً كعادتها في نصرةِ الحقِ ودحرِ الظلمِ والاعتداءِ الأثيمين.
الدروس والعبر كثيرة، لكن العبرة في مدى الاستفادة الحقّة لمواجهة التحديات الحاضرة والمستقبلية لتبعات ما قد ينشأ عن هذه التراكمات في المجال الإعلامي على وجه الخصوص من مزايداتٍ ومغالطاتٍ.
يحلو للبعض أن يطلق على مرتزقة الإعلام «أصحاب الدكاكين الإعلامية»، وهو مسمىً فيه من المكانة والشرف ما لا يستحقه هؤلاء، لأن بعض أصحاب الدكاكين على تنوعه يعملون تحت الشمس وفي وضح النهار وبتصاريح صريحةٍ تخوّلهم للتكسّب المشروع، لا أقبيةَ ولا دهاليز؛ أما أولئك الانتهازيون فالتسمية الأليق بهم أنهم أصحاب «أكشاك وصنادق» متنقّلة حسب الهوى والهواء؛ هوى النفس الأمارة بالسوء، وهواء النَتَن الذي يتنفسونه ومن ثَمّ يزفرونه مباشرةً عبر الأثير ليؤُذوا به الأسماعَ، ويُقززوا به النفوسَ والأبصار. ذهب ماء الحياء من وجوههم، فما عادت تلك الوجوه تتأثر ولا تتمعّر إلا عندما تُفحَمُ وتُحشرُ في زواياها الضيّقة التي تنظر من خلالها لمصالحها ومصالح من استأجرها!
الإعلام إذاً يخوض معركةً - بل معاركَ - مع المعادين لا تقل ضراوةً ولا شراسةً بالقلم واللسان، والحجج والبراهين لدفع شُبهِ المغرضين من أشباهِ الإعلاميين وتفنيدها.. لقد بلغت هذه المواجهة غير المتكافئة حداً جعلت من بعض أولئك لا يتورعون عن التشنيع على مبادئ وقيمٍ ساميةٍ ليعسفوها عسفاً لتتوافق مع تطلعاتهم ونزواتهم المريضة بدعاوى باطلة، مرةً باسم محاربة الإرهاب، وأخرى باسم نصرة المظلومين، وثالثة باسم تحرير ما اُغتصب من بلدان المسلمين!
لا خيل عندك تُهديها ولا مالُ
فليُسعفِ القولُ إن لم يسعفِ الحالُ
هذا بعض ما في جعبتيَ المتواضعة من بضاعةٍ مزجاةٍ، علَّ أن يجد فيها المسئول ما ينفع - بإذن الله تعالى -، ويحقق المأمول إعلامياً على خير ما نرجوه ونأمله جميعاً من رفعةٍ وسؤددٍ.
* الأولوية لهذه الإستراتيجية الإعلامية مع هذه (البشائر السلمانيّة) تكمن في وضع أُطر واضحة ومحددة يتم من خلالها التعامل مع محاولات النيْل من مواقف المملكة وثوابتها على كافة المستويات بكل جديّة، سواءً بالتجرؤ لحرفها عن مسارها الصحيح أو بالتشويه والتضليل وقلب الوقائع والحقائق. صحيح أن مثل هذه الأمور لم تعُدْ تنطلي على الكثيرين، لكنها عند القلة القليلة من محدودي التعليم والاطلاع تلقى رواجاً ينفُذُ من خلاله المغرضون لبث أفكارهم وشبههم الضالة والمسمومة. المواجهة المبكرة إعلامياً لوأد مثل هذه الخطط لإفشالها تفنيداً وتحليلاً ومحاورةً بالحكمة والموعظة الحسنة لمن هو جاهل، وبالجدال بالتي هي أحسن لمن هو مغرض، منهجٌ نبويٌ ثابتةٌ جدواه في معالجة مثل هذا التصعيد المحموم والممنهج والمحتمل. المتلقي حينها يكون على بيّنةٍ من الأمر، والمفتري ينكفئ ويخسأ لأن هناك من يُلجمه ويُبطل دعواه.
* أرباب الإرهاب وإذكاء الطائفية المقيتة - دولاً كانت أو جماعاتٍ أو منظّماتٍ - يجدون في وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة ملاذاً آمناً لتحقيق مآربهم الدنيئة؛ فحبذا لو أُوجدت بدائل أو آليّات تحُدُ من تغلغل هذه الأفكار السوداوية والسامّة من الوصول إلى عقول الناشئة والشباب. لقد استمرأت هذه الجهات المشبوهة الإيغال في إشاعة الفوضى والفتنة المدمّرة لدرجة أنهم وظّفوا ما وصلت إليه التقنية الحديثة من تطورٍ متسارعٍ لخدمة أغراضهم الدنيئة ومآربهم الشريرة دون أن يبرحوا كهوفهم وأقبيتهم، مستفيدين من الدعم الذي يتحصلون عليه من مموّليهم ومحركيهم الاستخباراتيين والخونة المارقين؛ ولا ينكر أحد مدى ثأثير هذه الألاعيب الشيطانيّة الماكرة في عقول الناشئة والشباب الغِرْ ممّن تستهويهم المغامرات وتغيب عن أذهانهم المرامي والمآلات التي ينوي أولئك إيقاعهم في حبائلها وشِراكها الفتّاكة.
* أما على المستوى الخارجي، فإن وجود مستشارين إعلاميين ذوي خبرةٍ وكفاءةٍ وإلمامٍٍ بالمتغيرات والمستجدات، قادرين على دحض شبهات المفترين وتقوِّلات المبغضين، وذلك أولاً بأول عبر الإعلام يجعل من هذه المزاعم والمحاولات الكيديّة تموت في مهدها، وينقل الصورة واضحةً جليّةً للرأي العام الغربي وغيره كما هي. كانت المؤتمرات الصحفية لسفير خادم الحرمين الشريفين الدكتور عادل الجبير أولاً بأول حول عاصفة الحزم وإعادة الأمل لليمن الشقيق برهاناً ساطعاً على ما يمكن أن يثمر عنه الجهد الدبلوماسي المدروس وجدواه في إيضاح الصورة رغم ما يكتنفها من صعوبات وعراقيل.
* وداخلياً، فإن تجربة المتحدثين الرسميين للجهات الأمنيّة المعنيّة، كاللواء المهندس منصور التركي، والعميد ركن أحمد العسيري في محاربة الإرهاب وذيوله، وكذلك في ملخصات عاصفة الحزم وإعادة الأمل أضفت بُعداً عميقاً ومتجذراً في تثبيت الثقة والمصداقيّة والشفافيّة والشعور بالارتياح والإنجاز جراء المبادرة الفورية في نقل حقيقة ما يجري، وما يحققه رجال الأمن البواسل من إنجازات عظيمة لإرساء الأمن والاستقرار وبث السكينة والاطمئنان في نفوس المواطنين والمقيمين في الجبهة الداخلية.
* إن ما نلاحظه مؤخراً هو استماتة أهل الباطل في تزيين باطلهم عبر استغلال هذه الوسائل الإعلامية الحديثة - خصوصاً القنوات التلفزيونية - وبألسنٍ ناطقةٍ بالعربية، في حين أن أهل الحق أولى وأحق وكأنّ لسان حالهم يقول: طالما أننا على الحق فلا يضيرنا أن يكون عدونا أكثر نشاطاً في الترويج لباطله، ونسوا أو تناسوا أن واجب التبليغ والدعوة للخير يحتّم بذل الجهد قدر الوسع فقد يكون من بين المستهدفين من هو جاهل أو مغرّر به!.. ومثال إيران المارقة وداعش الدمويّة شاهد حيٌّ على أهمية التصدي باكراً؛ ويكون بذل الجهد مضاعفاً إذا ما حصلت مضرةٌ من تشويهٍ للدين أو التعدي على المقدسات والمسلّمات أو استدراجٍ للعوام باسم الدين للانغماس في الشركيات والضلال وأُتون الإرهاب والإفساد في الأرض باسم الجهاد!
* ولما للأمن الإعلامي من أهمية بالغة، فإن وجود مراكز إعلامية تنضوي تحت سلطة المجلس المبارك الجديد تدرس بالتحليلِ والمتابعةِ والرصدِ الحثيث كل ما يصدر عن الأبواق الرسمية والمأجورة - بشكل مباشر وغير مباشر - والتي تتبع الأجندات العدائية والتوسعية الأطماعية، وتكون متاحةً بعد تفنيدها للرد في حينه، أمر يزيد من الوعي بخطورة هذه الممارسات، ويحُدُ من نبرات الاستعداء والتهديد التي تتمادى في غيّها حين لا تجد من يكبح جماحها.
إن مما يدعو إلى التفاؤل والاستبشار في ظل هذا النهوض الفاعل على كافة المستويات أن مجال الإعلام الرسمي طاله هذا التغيير وذلك باختيار كفاءةٍ وطنيّةٍ أثبتت نجاحاتها وجدارتها من خلال (العربية) ألا وهو الدكتور عادل الطريفي وزيراً للثقافة والإعلام. المؤمّل - بحول الله وقوّته - أن يثمر هذا الدعم من ولاة الأمر في الرقيّ بمستوى ومهنيّة الأداء الإعلامي المرئيّ على وجه الخصوص والتسريع بعجلة التطوير في القنوات التلفزيونيّة لتضاهي وتنافس مثيلاتها، بل وتتفوق عليها. أقول هذا عطفاً على ما يتوفر من إمكاناتٍ بشريةٍ وتقنيّة تجعل من إمكانيَة تحقق ذلك أمراً ليس صعباً.
إن مشروعاً إعلامياً جديداً وقوياً بقوة ما أحدثته هذه القيادة المباركة من نقلات سريعة وديناميكية تواكب الأحداث وجسامتها لأمر حتميٌّ يفرضه كونها - أي السلطة الإعلامية - لا تقل عن أخواتها التشريعية والقضائية والتنفيذية أهميةً في حماية البلاد والعباد من غوائل الأطماع والتآمر على نسيج الجسد الواحد والبنيان المرصوص.