منذ عَقِلتُ في هذه الحياة وأنا أرى العلماء عن يمين الملك وشماله، يتبسم لهذا، ويُـحدِّث هذا، وفي يوم العيد يذهب الملك أو ولي عهده للسلام على العلماء وتهنئتهم به.
لم أسمع عن أحد من حكام الدول أو رؤسائها من يفعل ذلك.
فلما نظرت في تاريخهم وجدت عجباً فالإمام المجدد محمد بن سعود يذهب إلى الشيخ محمد بن عبدالوهاب - غفر الله لهما - في منزل ابن سويلم، استجابة للناصح من أهله ليتم العهد بينهما على نصرة هذا الدين، والدعوة إلى توحيد رب العالمين كما جاء في تاريخ ابن بشر (1-42) (لو تسير إليه برجلك، وتظهر تعظيمه وتوقيره، ليسلم من أذى الناس ويعلمون أنه عندك مكرم، فسار إليه).
وهذا الإمام الثاني المجدد عبدالعزيز بن محمد بن سعود يجلس إلى الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمهم الله - مجلس التلميذ يتلقى منه العلم الشرعي حتى بلغ منه مبلغاً عظيماً يُقنع شيخه بأن يكون هو القائم بالأمور الدينية مع الأمور الدنيوية، وجاء في سيرته (كان متواضعاً يحب العلماء وطلبة العلم وحملة القرآن) تاريخ ابن بشر (1- 270).
وهذا الإمام الثالث المجدد سعود بن عبدالعزيز بن محمد - غفر الله لهم - إذا حزبه أمر كان ممن يرسل إليهم أبناء الشيخ محمد بن عبدالوهاب وأهل العلم من أهل الدرعية، وكان رأيه يميل إلى رأيهم (تاريخ ابن بشر (1-344)).
وبعد أن جاءت الدولة العثمانية بمرتزقتها لتقضي على دعوة التجديد بالقضاء على دولته، جاء الإمام المجدد تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود - رحمهم الله - فتعاون مع من بقي من العلماء سالماً من نفي وقتل الأتراك ليعيد الدعوة والدولة.
ثم جاء فيصل بن تركي - رحمه الله - ناج من منفى أهل البغي، فتعاون مع الشيخ عبداللطيف - رحمه الله - الذي هو أيضا سلم من منفى الباغين الحاقدين.
ثم جاء الملك المصلح المجدد عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل - غفر الله له ورحمه - وتقديره لأهل العلم لا يمكن حصره في مقال فمن ذلك:
قصْره أمر الدين والدعوة في يد علماء عصره أهل الثقة والعلم، فقال رحمه الله:
(ومن يرى في نفسه لياقة إلى الدعوة إلى الله فيعرض نفسه وما عنده على المشايخ المذكورين إن كان بالعارض فعلى شيخنا وإمامنا أيده الله وأبقاه الشيخ عبدالله بن عبداللطيف، وإن كان بالوشم فعلى أخيه الشيخ محمد بن عبداللطيف، وإن كان بسدير فعلى الشيخ عبدالله العنقري، وإن كان بالقصيم فعلى الشيخ عبدالله آل سليم، ومن تجاوز بشيء غير ما ذكرنا وعلى غير أمر المشايخ المذكورين فلا يأمن العتبى.. وكذلك بلغني أن أناسا يعترضون على مشايخنا وعلمائنا، فأما نحن ومشايخنا فلا عندنا شك في ديننا ولا حول ولا قوة إلا بالله) مختارات من الخطب الملكية (1-23).
وقال - رحمه الله - (أما النصائح فقد بينها المشايخ الله يجزاهم عن الإسلام والمسلمين خيراً وهو الذي ندين الله به ونعتقده). (مختارات من الخطب الملكية 1-34).
وقال - رحمه الله: (فمن كان ثابتاً عنده أن الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - مجدداً لهذا الدين الذي هو توحيد رب العالمين، ومتابعة سيد المرسلين، فهذه كتبه مشهورة، فليعتمد على ذلك، ونحن إن شاء الله أعوان له على ما يرضي الله ورسوله، ومن كان عنده شك فليسأل الله الهداية، ويطلب بيان ذلك من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويسأل من يثق به من العلماء المحققين. إذا فهمتم ذلك فاعلموا - هداكم الله - أننا إن شاء الله - بحول الله وقوته - أنصار لمن دعا إلى ما دعا إليه الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - قائمون بما قام به أجدادنا الذين نصروه، ومن خالف ذلك إما بتفريط أو إفراط فلا يلومن إلا نفسه.. والله إني لأؤدب به أدباً يتأدب به الأولون والآخرون، ومن أنذر فقد أعذر، ولا حول ولا قوة إلا بالله) (إتحاف الأمة بخطابات أئمة آل سعود العام ص149).
وقال رحمه الله: (فمن أفتى أو تكلم بكلام مخالف لما عليه الشيخ محمد بن عبدالوهاب وأولاده: عبدالله وعبدالرحمن وعبداللطيف وعبدالله بن عبداللطيف فهو متعرض للخطر لأننا نعرف أنه ما يخالفهم إلا إنسان مزاور للشر والفتنة بين المسلمين) (إتحاف الأمة بخطابات أئمة آل سعود العامة ص165 و166).
وأما الملك سعود - رحمه الله - فقد حدثني الشيخ العلامة سعد الحصين - غفر الله له - أنه لم يعرف في حياته أكثر منه تقديراً وإجلالاً للعلماء بل قال لي مرة: (إن الملك سعود - رحمه الله وأسكنه فسيح جناته - كان يجلس في مجلسه مع العلماء على طرف الكرسي لكي لا تفوته كلمة من كلام الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمهما الله - تأدباً مع الشيخ واحتراماً له)، وأنه جعل للشيخ عمر بن حسن - رحمه الله - الفصل فيما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في عاصمة ملكه وما يتبعها، وكان لا يقبل التدخل في أي قضية وصلت إلى المحكمة من أي راغب في التدخل كائنا من كان.
وأما الملك فيصل - رحمه الله - فكان محباً للعلماء موقراً لهم, وكان يشاورهم, ويرجع إليهم من أمثال الشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ ابن باز والشيخ عبدالله بن حميد رحمهم الله جميعا، فحين كان الشيخ ابن باز - رحمه الله - في الجامعة الإسلامية وقدم الملك فيصل لزيارة المدينة المنورة قال الشيخ ابن باز للشيخ إبراهيم الحصين نذهب نسلم على الملك, قال الشيخ إبراهيم: فاستأجرنا سيارة تكسي ودخلنا على الملك ولعل من رأى سيارة الأجرة أخبر الملك فلما خرجنا من عنده إذا به قد أمر بسيارة للشيخ عبدالعزيز بسائقها وبعد الإلحاح قبلها الشيخ (عبدالعزيز بن باز للشويعر ص403)، بل أعلن للملأ أن الشيخ ابن باز - رحمه الله - بمنزلة والده كما في اجتماع إنشاء جامعة الملك عبدالعزيز بجدة, كما حدثني الشيخ سعد الحصين رحمه الله.
ذكر الشيخ عبدالله البسام في ترجمة الشيخ عبدالله بن حميد - رحمهما الله - (أن ولاة الأمر يجلونه ويعرفونه قدره ويحترمونه غاية الاحترام) علماء نجد (4-438).
وكذلك الملك خالد - رحمه الله - حدثني الشيخ إبراهيم العوهلي - غفر الله له - أن وليمة كان مدعو لها الملك خالد وسماحة الشيخ عبدالله بن حميد رحمهما الله, وكانت سيارة الملك خالد متقدمة على السيارة التي فيها الشيخ عبدالله بن حميد فلما قرب وصولهم إلى المقر المعد لذلك كان جزء من الطريق لم يصله الزفلت فهو طريق ترابي, فأمر الملك خالد سائقه بالوقوف وجعل سيارة الشيخ عبدالله تمضي أمامه وقال: (لا نتقدم على الشيخ فنثير عليه الغبار بل هو الذي يتقدم علينا).
وأما الملك فهد - غفر الله - له فالشواهد كثر أذكر منها ما سطره معالي الدكتور محمد الشويعر - غفر الله له - في كتابه عن الإمام عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - (ص 601) حيث قال: (الشيخ عبدالعزيز نعتبره والداً لنا ونعرف نصحه وإخلاصه ومعالجته للأمور)، بل لما اشتكى الشيخ من ألم رجليه وصار المشي يتعبه أمر الملك فهد بأن يخصص له مدخل خلف الصالة المعدة لجلوس المشايخ في الديوان الملكي حتى يدخل مباشرة ولا يمشي طويلا حسب المدخل الرسمي. (ابن باز للشويعر ص599)، وقد ذكر د. الشويعر قصة زيارة الملك فهد للشيخ عبدالعزيز في منزله بسيارة عادية وبلا حرس، فليراجعها من أرادها.
وأما الملك عبدالله رحمه الله فهو على مسيرة أسلافه في توقير أهل العلم فكم طالعناه وهو ولياً للعهد يزور علماءنا في منازلهم في أيام العيد، وكذلك بعد توليه لمقاليد الحكم, بل وأصدر أمره الكريم بقصر الفتوى على العلماء الموثوقين حتى لا يختلط على العامة العالم من الدَّعي له .
وأما الأمير سلطان بن عبدالعزيز رحمه الله فقد ذكر شيخنا سعد الحصين رحمه الله في مقاله (افتراء مخالفة الرسول بدعوى محبته صلى الله عليه وسلم) (المنشور في موقعه)، أن أخاه الشيخ إبراهيم أخبره أن الشيخ عبدالعزيز حين أعلن إنكاره سوء عمل أحد المسؤولين وأنه بمخالفته منهاج السنة يعمل على تقويض القاعدة التي قامت عليها البلاد والدولة (طاعة الله ورسوله وإتباع سبيل المؤمنين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان) فهو خطر على البلاد والدولة والمنهاج الديني الذي ميزهما الله به في القرون الثلاثة الأخيرة.
يقول الراوي - رحمه الله: إن المسؤول المعني ربما خاف على وظيفته فركض يستغيث بصاحب السمو الملكي الأمير سلطان - رحمه الله- فجاءه الجواب يحمل في طياته السخرية منه والتبكيت له: (الشيخ ابن باز والدنا وشيخنا، ولو أنه ضرب أحدنا بعصاه ما كان منا إلا الرضا والتسليم لشرع الله ثم الطاعة لأكبر حَمَلة شرعه والدعاة إليه على بصيرة).
وكذلك بقية الأمراء من أصحاب السمو الملكي : فصاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز - رحمه الله وجزاه خير الجزاء - يبجل العلماء, ويذب عنهم, ويحرص كل الحرص على اللقاء بهم, حتى في موسم الحج, يذهب إليهم ويتفقد أحوالهم فكم مرة زار الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في مخيمه بمنى, وزار قبله سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله في مقر إقامته بمنى, وعلى ذلك سار ابنه ولي العهد الأمير محمد بن نايف في زيارة علمائنا.
وهذا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان - جزاه الله عن الإسلام وأهله كل خير وحفظه عزاً للإسلام وأهله- لا يمكن ذكر توقيره لأهل العلم في مجرد مقالات ولا حصره في بعض الكتابات, فكم دافع وناضل عن الدعوة السلفية وأئمتها, ومن لطيف ما رأيته أنه قدَّم الماء في إحدى المناسبات لسماحة المفتي العام للمملكة حين طلبه بل قام من مكانه ووضعه في يده.
وهذا صاحب السمو الملكي الأمير مقرن - حفظه الله وجزاه على ما قدّم خيراً - يقبل رأس سماحة المفتي في عرفة أثناء الحج.
وآخر ما طالعتنا به الأخبار ما كان من ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير الشهم النبيل الكريم محمد بن نايف -أعزه الله بالإسلام وأعز الإسلام به- من تركه لمكانه ومسارعته خطاه أثناء مبايعة الناس له؛ ليذهب لسماحة شيخنا العلامة صالح الفوزان فيقبل رأسه أكثر من مرة, ويحادثه, مع كثرة الناس وتزاحمهم عليه.
وكذلك ولي ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير الهمام محمد بن سلمان - حرسه الله وأعز به دينه ووفقه لكل خير- كم ظهر له من مواقف كثيرة يبادر أهل العلم بالاحترام الكامل والتوقير الظاهر, من تقبيل لجبين العلماء كسماحة المفتي وبقية علمائنا.
هذه إلماحات وإلا فالمواقف أكثر من أن تحصر, وما غاب أكثر مما ظهر. سائلا الله أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء وأن يوفق ولاة أمرنا لكل خير وأن يحفظهم وينصر بهم دينه وأن يصلح لهم البطانة ويكفيهم شر ما أهمَّهم.
- عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء