الرياض - «الجزيرة»:
أكد أستاذ الدراسات العليا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الدكتور علي بن إبراهيم النملة أن مركز الأمير محمد بن نايف للمناصحة والرعاية أسهم في نشر مفهوم المنهج الوسط في الإسلام ومفهوم الاعتدال والسماحة، ونبذ الغلو (التطرُّف) والأفكار المنحرفة، ومن ثمَّ تحقيق التوازُن الفكري والنفسي والاجتماعي لدى الفئات المستهدفة من المشروع، وكذلك إبراز أثر المملكة العربية السعودية في مكافحة الإرهاب والتصدِّي للأفكار المنحرفة والضالة، وفي رعاية أبنائها وإصلاحهم.
وأوضح أن فكرة المواجهة الفكرية «المناصحة والرعاية» نبعت باقتناع مباشر من صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية، وكان حينها مساعداً لوزير الداخلية، وهو فارس التصدِّي لتلك الحركات واصطلح على تسميته ببرنامج المناصحة والرعاية.
جاء ذلك في ورقة عمل بعنوان: «في سبيل بناء استراتيجية عربية للرعاية والمناصحة»، قدمها الدكتور علي النملة في الملتقى العلمي الذي نظمته كلية العلوم الاجتماعية والإدارية بجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية بمقرها بالرياض مؤخراً، وشارك فيها أكثر من (121) مشاركاً ومشاركة من وزارات الداخلية، والعدل، والإعلام، والتعليم، والأوقاف، والشؤون الدينية في الدول العربية والمؤسسات الإعلامية والمنظمات الدولية المختصة بقضايا الأمن الفكري والباحثون المختصون في هذا المجال من الدول العربية والمنظمات العالمية.
وقال الدكتور علي النملة في ورقته العلمية «ابتُليت هذه البلاد الطاهرة كما ابتُليت بلاد أخرى قريبة وبعيدة بحركات أُريد لها أنْ تخدش ما عُرفت به البلاد من استقرار وأمن وأمان».
وأوضح كذلك أن فكرة قيام برنامج وقائي وعلاجي للتعاطي مع الأحداث التي تولَّى تنفيذها على الواقع عددٌ من أبناء البلاد برز بشكل خاص عام 1425هـ، حين تولَّت تأجيجها والتحريض عليها جماعات وتنظيمات داخل المحيط الإسلامي وخارجه، أساءت فهم الإسلام في مختلف جوانبه، مشيراً إلى أن المخطِّطين لهذا البرنامج اصطلحوا على تسميته ببرنامج المناصحة والرعاية، واستمرَّت الدراسات والنقاشات وورش العمل تبلور هذا البرنامج من زواياه كلها، وتسعى إلى الإحاطة في تطبيقه، حتَّى انطلق البرنامج في 12-10-1427 هـ و 12-10-1427 هـ، باسم مركز الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز للمناصحة والرعاية، وجاء اختيار مفهوم المناصحة والرعاية لما فيه من تأصيل للمشروع، فهو مفهوم قديم من حيث وجوده. فقد قام به عبدالله بن عبَّاس - رضي الله عنهما - موفدًا من الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وأبان الدكتور النملة أنه تم اختيار مصطلح «المناصحة» و»الرعاية» لما له من دلالة هادئة تعالج العقول والأذهان، ويتضمَّن المصطلحان حبَّ الناصح للمنصوح له والحنو عليه واحتضانه والشفقة عليه والرغبة في إيصال الخير له ودفع الضرر والشرِّ والمكروه عنه، مما يدخل في مفهوم القوَّة الناعمة في مواجهة الفكر (المتطرِّف) ومنظِّريه ودعاته.
وأضاف أن البرنامج شامل لجميع ما يتبادر إلى الذهن من آليات المناصحة والرعاية، ذلك أنه صيغ برويَّة وبرؤية وبعقول وأذهان متخصِّصة وغيورة على دينها ووطنها وقيادتها ومواطنيها؛ حيث أُنشئت لهذا الغرض لجنةٌ مركزيَّة، تفرَّعت إلى ثلاث لجان عليا، هي: اللجنة العلمية، واللجنة الأمنية، واللجنة النفسية الاجتماعية. وتُعنى هذه اللجان وما تفرَّع عنها من فرق عمل ولجان ميدانية بالمعالجات الشرعية والفكرية والأمنية.
وأوضح الدكتور علي النملة أنه شارك في هذه اللجان حين انطلاقتها ما يزيد على مئة وثمانين مشاركًا ومشاركة، حيث سعت هذه اللجان العليا الثلاث وما انبثق عنها من فرق عمل إلى الإحاطة بالمشروع من شتَّى جهاته، من حيث الوسائل والأساليب شملت الرجال والنساء، وتعدَّدت فيها الوسائل والأساليب، بحيث لاحقت جميع الوسائل التي تسهم في إشاعة الفتنة والتحريض على الإرهاب، مؤكداً أن الجامعات والمدارس والجوامع ووسائل الإعلام أسهمت بقسطٍ وافرٍ من تحقيق أهداف المشروع، فعقدت اللقاءات والمؤتمرات والندوات. وتبنَّت الدراسات العليا بالجامعات والمعاهد العليا والكلِّيات الأمنية ومراكز البحث العلمي طرح المشروع والبحث فيه، وفي ظاهرة الإرهاب بعمومها.
وأشار إلى أن جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، والجامعة الإسلامية بالمدينة المنوَّرة، وغيرها من الجامعات السعودية شهدت عددًا من الجهود في بحث ظاهرة الإرهاب، وتشخيص المشكلة والبحث في أسبابها وطرق علاجها. وتنوَّعت هذه الجهود من خلال المؤتمرات والرسائل العلمية، وكان لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية قصب السبق في هذه التنافُسية الشريفة في معالجة ظاهرة الإرهاب، موثَّقة وبحوثها معتبرة في تلمس سبل المعالجة، وليس فقط التنظير المحلِّق غير القابل للتطبيق على الواقع. لما تضم جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية من نخبة من ذوي التجربة العريضة في الشأن الأمني بتفريعاته المختلفة، وتستأنس بالخبرات في هذا المجال من خلال ما تقيمه من مؤتمرات وحلقات نقاش، وتُعنى ببحوث الإرهاب والتصدِّي له من خلال التشجيع على البحث العلمي في موضوعات الإرهاب للمتقدِّمين للدراسات العليا بالجامعة من العسكريِّين والمدنيِّين على حدٍّ سواء.
وشدد الدكتور النملة على أن مشروع المناصحة والرعاية لم يغفل تأثير تقانة المعلومات باتِّساع وسائل التواصُل الاجتماعي والإنترنت، وظهور قنوات فضائية وغير فضائية لا تكنُّ للإسلام والمسلمين ولا للمملكة العربية السعودية أيَّ وُدٍّ أو تقدير للجهود التي تقوم بها البلاد في سبيل تحقيق الرفاهية الاجتماعية لمواطنيها والمقيمين بها، بالإضافة إلى عنايتها ورعايتها لشؤون المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فسعت هذه القنوات إلى تحجيم جهود البلاد وقادتها، مما كان له أثر على رقعة من المواطنين الشباب الذين تأثَّروا بهذه الدعايات وسعوا إلى تبنِّيها، وتبنِّي الأفكار التي روَّجتها. ولم يغفل المشروع كذلك مسألة الرعاية اللاحقة للمستهدفين، بحيث لا يُكتفى بتوجيههم وهم في حال الإيقاف، ثم بعدما يخرجون يتركون نهبًا للأفكار المغرضة، بل تلاحقهم الرعاية وتسعى إلى إشغالهم بما يعود عليهم وعلى بلادهم بالخير والنفع. وينخرطون في مجالات الكسب المشروع فيستفيدون ويُفيدون. وبهذا يكون هناك ضمان - بعد توفيق الله تعالى - لعدم العود، ويكون هناك حد قوي عن العود إلى الغواية وتغليب الأهواء.
واستعرض أستاذ الدراسات العليا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية مسيرة مركز الأمير محمد بن نايف للمناصحة والرعاية بعد ما يقارب العشر سنين من بروز فكرة المناصحة وتفعيلها بلجان على مستوى البلاد، ومسار المشروع في نظرة تقويمية، من حيث فاعليته من خلال ما خرج به من نتائج، فكانت هناك وقفات تقويم من عدد من أعضاء لجان المناصحة، قوَّمت المشروع، وأظهرت ما هو عليه من نجاحات، وما ينبغي أنْ يكون عليه من تلافي الهنات التي لا بُدَّ أنْ تظهر مع التطبيق على أرض الواقع. ومن هذه الجهود المعتبرة قيام الجامعة الإسلامية بالمدينة المنوَّرة في شهر جمادى الآخرة من سنة 1435 هـ بعقد مؤتمر تقويم ومراجعات فكرية حول مشروعات التصدِّي للإرهاب، وفي طليعتها جهود مركز الأمير محمد بن نايف للمناصحة والرعاية. حيث قُدِّمت في المؤتمر أكثر من ثمانية بحوث مباشرة قوَّمت تجربة المركز.
وعن بناء الاستراتيجية للمشروع استعرض الباحث الإسهامات الميدانية والتقارير والجهود المبذولة، سواءٌ منها ما نُشر في المؤتمرات أم لم يُنشر، مما يمكن الخروج بنواة لوضع استراتيجية عربية شاملة للمناصحة والرعاية، تراعي الفروقات بين الدول العربية في نظرتها لآليات المناصحة والرعاية وأساليبهما ووسائلهما. تكون هذه الاستراتيجية استئناسيةً وغيرَ ملزمة، بل تستهدي بها الدول التي ترغب في علاج ما تعانيه من العمليَّات الإرهابية في مجالي الرعاية والمناصحة، وذلك على اعتبار أنَّ مفهوم الإرهاب لا يزال مفهومًا مضطرباً، لم يصلْ العالم إلى تعريف حوله قريب من القبول، والعالم العربي جزءٌ من هذا العالم، رغم وجود المشتركات العامَّة في النظر إلى الغلو في الفكر والإرهاب. ولذلك يكفي أنْ يتَّفق العرب على رؤية تقريبية للتعاطي مع الإرهاب من خلال تبنِّي مشروعات الوقاية والعلاج بالرعاية والمناصحة في تزامُنٍ غير مُخلٍّ، فلا يُقدّم علاج على وقاية، ولا تغفل الوقاية في التوجُّه إلى العلاج. وشدد الباحث الدكتور النملة على أن هذا البعدُ هو الذي ينبغي أنْ يكون واضحًا في رسالة الاستراتيجية وأهدافها. أمَّا الوسائل فقد تختلف من بيئة إلى أخرى، على أنْ يكون هناك اقتناع وإرادة من صانعي القرار الأمني، كما تولَّدت لدى أترابهم في المملكة العربية السعودية، مما أعان بوضوح على نجاح التجربة، والإشادة بها في شتَّى المحافل. ذلك أنَّ المملكة العربيَّة السعودية تنطلق قولاً وفعلاً من رسالة تملك النظر في شتَّى المعضلات التي تواجه المجتمع. وأولى من يضطلع برسم الاستراتيجية تلك العقول الواعية التي مارست مهمَّة المناصحة والرعاية مع المستهدفين من ذوي التخصُّصات التي يتطلبها البرنامج من الباحثين الأكاديميين والباحثين الاجتماعيين والمتخصصين في مجالات الخدمة الاجتماعية والتربية وعلم النفس والعلوم الشرعية، فإنَّ لدى هذه النخبة من الرجال والنساء من الرؤى والأفكار والخبرة ما يمكن أنْ يُثري خطوات إعداد الاستراتيجية بواقعية واضحة وقابلة للتطبيق على أرض الواقع، هذا بالإضافة إلى خبراء التخطيط وبناء الاستراتيجيَّات، مهما بدا عليها شيء من الغرابة لدى بعض المسؤولين من أصحاب القرار، بحكم أن بعضهم قد تفوت عليه بعض النقاط المراد توظيفها في الرؤية العامَّة للاستراتيجية.
وأكد الدكتور علي النملة أن المملكة العربية السعودية لديها إمكانات بشرية وعلمية وفكرية ومادية ولوجستية، بالإضافة إلى التجربة التي خاضتها هذه البلاد المباركة في مشروع المناصحة والرعاية، لإنجاح مشروع رسم استراتجية عربية تخدم فئاتٍ كثيرةً من المواطنين العرب. عاداً التسويق لمثل هذا المشروع وترويجه عالمياً؛ فيه صلاح للبلاد والعباد، وللإصرار العالمي في العموم على مكافحة الإرهاب بوسائلَ تضمن محدودية هذا الخطر العالمي.