ما زلت أذكر ذاك اليوم جيّداً.. على ناصية السفينة في ذلك الجزء الذي يشقّ عباب البحر ويقسمه نصفين.. شفتين.. من زبد أبيض.. ترسل القُبلات على أجنحة النوارس نحو الغيمات..
كانت السماء كقطعة مُخمل رمادية «فخمة» إلا أنها في متناول الجميع.. جميلة ولكنها قاسية، يتجاور البسطاء والأغنياء المقاعد ذاتها، معظمهم مشغول بتحصيل الدفء والبقاء داخل المقصورة..
يبدو أن أحداً منهم لم يفكر بالخروج.. سوى هؤلاء الذين قرروا أن يقفوا في وجه البرد ويرسلوا النظر.. نحو آفاق لستُ أعرفها.. ولكن.. لستُ أنساها!!
وجدتُ نفسي معهم فجأة.. على تلك الناصية.. وصوت أمي يتبعني بأن أعود لكي لا ألتقط البرد وأمرض.. ولكنني فتاة عنيدة كما يقولون.. ولدي مشكلات كثيرة فيما يتعلّق بواجبات الطاعة.. ولكن.. تجربة بسيطة كهذه لا شك تستحق..
ما أجمل الحياة بما فيها من تجارب صغيرة كانت أم كبيرة، لا تنظر إلى المؤشر ما دمت أنت المقياس!
كان الشتاء قاسياً في عرض البحر.. ولكن في لذّة النظر إلى تلك النوارس وهي تلتقط قطع البسكويت التي كنت أقذفها في الهواء جمالاً يستحق أن يُعاش.. وفي تلك الحماسة التي تتقد في فؤاد رقيق كأفئدة الطيور.. رعشة لا تشبه الشتاء..!
كنت أفتح ذراعيّ.. تحلّق بقربي النوارس.. وكأنها تمنحني الأجنحة لكي أطير.. كنت أضحك ولا أعرف لماذا أنا أضحك، ولكنه شعور غامر بالسعادة التي يتضاءل عندها الشعور بالمستحيل..!
أعرف بأني لم أكن أحلّق.. ولكنني تحوّلت إلى طائر يركب موجات الهواء.. فارداً جناحيه بحريّة.. طائر يثق بأنه سيحظى بالكثير من الرزق إذ يغدو.. والكثير من الحب والشوق إذ يروح..! وكأن الشكّ داهمني في تلك اللحظة الإيمانية، والحيرة قد خلعت معانيها على الأشياء، فبكيت بكائي الذي لا أعرف له صفة سوى أنه يجمع ما بين شهقات الضحك وحرارة الدموع.. لم أكن حزينة على الإطلاق.. ولكنني كنت في أسر تلك المشاهد الحالمة أستجدي لحظة صدق واقعي..
تلك المشاهد وقفت عندها كثيراً.. وتوسلتها كثيراً.. بدموعي التي لطالما انسكبت.. إيماناً بالجمال!
- حنان الحربش