د.عبدالعزيز أبوزنادة
إن ما أخطه هنا من سطور، لا تستطيع بالكاد أن يحيط بإنجازات صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل أو حياته، ولا حتى الوفاء بالقدر القليل من حقه، فهذه السطور بمثابة كلمة تقدير وإجلال، جاءت بناء على رغبة الكثير من الأصدقاء والعارفين، لأتناول الوجه الآخر، والذي يجهله الكثيرون عن سموه الكريم، وهو دوره في المحافظة على الحياة الفطرية.. وحيث أفاضت الصحف ووسائل الإعلام المختلفة، بالحديث عن الجانب السياسي والدبلوماسي في شخصيته الفذة.. فليسمح لي سموه الكريم بتذكير القارىء بما أوردته في كتابي (المسيرتان - الجامعة والحياة الفطرية) الذي أعتز بأن كتب مقدمته صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل، وأكاد أجزم أنني مهما حاولت فلن أستطيع الوصول إلى التوفيق الذي أتمناه للحديث عن هذا الرجل متعدد المواهب والإمكانيات، ذو الثقافة العالية والذكاء الحاد، خصوصاً لو حاولت أن ألم بإنجازاته العديدة التي يعرف عنها البعض ويجهلها الكثيرون - نظراً لحرصه على الابتعاد عن الأضواء - وليس من شك أن الكثيرين يعرفونه كأحد أقدم وزراء الخارجية في العالم وأنه الوزير المحنك والمخضرم، وأتمنى أن أوفق في الحديث عنه في هذه العجالة مغطياً مختلف جوانب شخصيته كرجل دولة ذي إسهامات مشهودة في شتى مناحي الحياة الإدارية، فهو مفاوض لا يشق له غبار ودبلوماسي يعرف قدراته القاصي والداني، وإداري يأسرك بأسلوبه السهل الممتنع وفكره الثاقب، وإن كان سموه عراب الدبلوماسية السعودية وعميد وزراء خارجية العالم.. فهو بلا شك من أسس لدبلوماسية المحافظة على البيئة، حيث اعتمد نفس أسلوبه الدبلوماسي الهادىء في تلمس الوصول إلى تحقيق الأهداف التي واجهت المسيرة في بداياتها، سواء أكانت مشاكل اجتماعية أو مشاكل متصلة بالتأسيس من (لا شيء) إلى (كل شيء) ولله الحمد.. ولم يكن ذلك ممكناً لولا وجود سموه الكريم بفكره وثقله ومكانته وشخصيته المبهرة الجذابة، ولعل ما تحقق من إنجازات في مجال المحافظة على الحياة الفطرية تحدث عنها في حينها القاصي والداني، لم تكن لتكون لولا شخصيته الآسرة بعد توفيق الله في مجال المحافظة على الحياة الفطرية، حيث عاصر هذا العمل بل قام عليه وأوجده من عدم منذ ما يزيد عن عقدين من الزمن، ولا أبالغ لو قلت إن سموه كان وراء كل الإنجازات والتطورات التي أخذت تتحقق على يديه على مدى فترة قصيرة من الزمن تم بناء هيكل مؤسساتي لا يكاد يكون له نظير في عالمنالعربي وأدخل من خلاله مفاهيم جديدة، بل ومصطلحات علمية ولغوية لم يسبق استخدامها من قبل مثل مصطلح (الحياة الفطرية) نفسها، كما عرفت الصحافة المحلية وتعاملت مع مصطلحات جديدة مثل (المحميات الطبيعية) مروراً بمصطلحات مثل (رموز الحياة الفطرية) و(المحميات الحدودية) وغيرها كثير التي أخذت عنا واستخدمت في بقية الأقطار.
إن اللافت لمن كان يتابع هذا الرجل وهو يتصدى لمختلف الاهتمامات هو قدرته الفائقة على التركيز والإبداع في أي من المجالات التي سبق التنويه عنها، حتى لتحسب أنها جزء من تخصصاته الأكاديمية، أو أن سموه ليس له اهتمامات أخرى غير هذا المجال، وفي هذا الصدد فإن سموه ذو قدرة فائقة على الانتقال من مجال إلى مجال بطريقة مدهشة قد يعاني منها المتابعون أو العاملون معه، أما هو فالأمر طبيعي وكأنه لا يعدو كبسة أزرار لينتقل إلى برنامج آخر وكأن شيئاً لم يكن.. فبعد أن كان يناقش ويمارس مسؤوليات الحفاظ على الطبيعة، ها هو دون أن تشعر قد انتقل بشكل سلس غير متكلف إلى مسؤولياته السياسية الأساسية، أما المتابع فما عليه إلا أن يتابع ويستجيب للمتغيرات.
وأعترف أن التعامل معه عن قرب مع كل الاحترام وبكل ما فيه من متعة يتطلب قدراً كبيراً من تدريب النفس وترويضها للتعامل مع هذا الرجل العظيم بنفس القدر الذي يتمتع به سموه من الحساسية والأناة والقدرة على رسم الخطوط الفاصلة دون أن تختلط الأوراق وتتداخل الاهتمامات، وعلى الرغم من مسؤولياته الجسيمة في غير المحافظة على الحياة الفطرية تراه يعطي الحياة الفطرية وقتاً كافياً وكأنها هي المسؤولية الوحيدة لديه.
أما إذا دعا داعي التوجه أو الانصراف للاهتمام بموضوع آخر فهو يقوم بتلقائية عجيبة وتكاد لا تحس أن هذه نيته فهو لا يتكلم.. بل يمارس العمل وبصمت، وعليك لو كنت ممن يعملون معه أن تتصرف بصمت وبنفس الحساسية والتلقائية المحببة التي لابد لك أن تتعلمها بالكلام.
وقد عبر سموه عن ذلك في كلمة كتبها لمقدمة كتابي (المسيرتان - الجامعة والحياة الفطرية): (عايشت الحياة الفطرية منذ الطفولة حيث عشقتها واكتسبت أخلاقيات المحافظة عليها في مدرسة والدي ووالد الجميع الفيصل العظيم رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، ولقد مارست رياضة الصيد في المملكة وفي مناطق عدة من العالم وإليها يرجع الفضل في إلمامي بمدى ما تتعرض له البيئات من تدهور ساهم في اختفاء بل انقراض الكثير من عناصر التنوع الاحيائي، وشمل ليس فقط المجموعة الحيوانية بل تعداه إلى تأثير مخيف على الحياة النباتية التي هي الأساس الذي تبنى عليه مختلف أشكال الحياة.
ومن هذا المنطلق مارسنا هذه الهواية المحببة إلى النفس بشكل نأمل أنه كان مستداماً وفي مناطق وبيئات تسمع بذلك، وعندما تسنح فرصة لذلك ويخيل إلي أنني ربما كنت قد أحسست كما لم يحس غيري بعظم المسؤولية ومقدار الخسارة التي لحقت بالبيئة وعناصرها جراء بعض السلوكيات غير الرشيدة وعندما ينعدم الانضباط وتسود الفوضى ويصبح الجور سيد الموقف.
وعلى الرغم من بعد تخصصي الأكاديمي واهتماماتي الإدارية البعيدة عن حماية البيئة، فقد قررت التصدي لوقف هذا الهدر والعمل على وضع حد للتدهور البيئي استرشاداً بتوجهات وتوجيهات قادة هذه البلاد.
دوره في إقامة المحميات
ولقد اعتدت خلال تلك الفترة على تلقي أسئلة تصدر ممن لا يعرفون الأمير سعود الفيصل كما يعرفه العاملون معه، وتتعلق هذه الأسئلة بدور سموه في إدارة العمل بالهيئة وذلك بالنظر إلى معرفة الجميع عن مشاغله الكثيرة وكثرة سفرياته. وللحق والتاريخ لابد من الإشارة إلى الدور الكبير والإسهامات المهمة التي لم تكن لتتحقق لولا خبرته عن مناطق المملكة واهتمامه وإيمانه بالعمل الذي قدر له القيام به والذي كان ينظر إليه على أنه (هواية وطنية) محببة أكثر منها عملاً كلف بأدائه، ولقد ظل يتابع المشروعات بكل اهتمام ويقرأ كل ما يرفع إليه من تقارير ومذكرات وبعضها تقارير فنية على مستوى كبير في التعمق الذي يحتاج إلى تخصص، ولقد أدى اندماجه مع أعمال الهيئة واقتناعه بها إلى توقف سموه عن ممارسة هواية القنص التي كان يعشقها، وأذكر هنا نقاشاً دار في سيارته الخاصة إبان زيارة برية لإحدى المحميات مع سمو الشيخ حمد بن جاسم آل خليفة النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية لدولة قطر، وكان وقتها وزيراً للزراعة حيث شارك مع عدد من كبار المسؤولين في مختلف الدول العربية وخصوصاً من دول الخليج العربية في الاحتفال الذي أقيم بمناسبة افتتاح محمية محازة الصيد تحت رعاية صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز، فقد سأل الشيخ حمد الأمير سعود باستغراب كيف أمكن لسموه أن يوازن بين هواية القنص وحماية الحياة الفطرية، فأجابه سموه أنه قد توقف عن رياضة القنص نظراً لتعارضها مع التزامه الرسمي، واقتناعه الشخصي بحماية الحياة الفطرية وإنمائها.
لقد كان لسموه دور خاص في التخطيط لإقامة المحميات التي بدأناها منذ السنة الأولى من تأسيس الهيئة علماً أن إنجاز المنظومة الوطنية للمناطق المحمية من قبل فريق الخبراء العالميين لم يتم إلا بعد ثلاث سنوات من إنشاء الهيئة، لكننا والفضل لله ثم لمعرفة الأمير سعود بمناطق المملكة تمكنا خلال تلك الفترة وقبل نشر خطة المنظومة من إعلان أربع محميات تعتبر أهم محميات الهيئة على الإطلاق هي حرة الحرة والخنفة والطبيق ومحازة الصيد.
وعلى الرغم من معرفة سموه العميقة بالمناطق إلا أن إعلان تلك المحميات لم يعتمد على سابق خبراته ومعلوماته عن تلك المناطق فحسب، بل حرص على تحديث تلك المعلومات من خلال مشاركاته الفعلية في الرحلات الحقلية التي تم تنظيمها والتي استغرقت وقتاً طويلاً، كان يقتطعه من إجازاته، وكان من المعتاد أن يصاحبنا في هذه الرحلات ممثلون من جهات حكومية عديدة مختلفة ذات العلاقة، إضافة إلى فريق البحث المكلف بإعداد المنظومة وبعض أساتذة الجامعات وخبراء من خارج المملكة.
الدعم المالي للهيئة
لم تقتصر جهود سموه - حفظه الله - في إدارة شؤون الهيئة ومتابعة مشاريعها الهامة فحسب، بل عمل جاهداً على توفير الدعم المادي لها من مصادر أخرى غير مصادر الميزانية المعتادة، حيث استثمر علاقاته ومركزه المرموق في توفير ذلك الدعم الذي أطلق عليه المكرمة الملكية والتي كانت بحق ركيزة أساسية وداعما مهماً لمشاريع الهيئة في الأيام الأولى لها وذلك بالنظر إلى تدني الاعتمادات المخصصة لها في الميزانية العامة، حيث لم يتجاوز ما اعتمد لها ثمانية ملايين ريال.
وإضافة إلى ذلك لابد من الإشارة هنا أيضاً إلى تبنيه - حفظه الله - وبصفة شخصية للمركز الوطني لأبحاث الحياة الفطرية في الطائف وهو باكورة عمل الهيئة الذي خطط له لأن يكون أول مركز لإنتاج الحبارى تحت الأسر في العالم وحذا حذوه عدد من المؤسسات الخليجية.
لقد كان سموه يرفد هذا المركز من جيبه الخاص بحوالي أربعة ملايين ريال سنوياً ليتمكن من تحقيق الأهداف التي أنشىء من أجلها. وفي تقديري فإن هذا الدعم من سموه الكريم هو الذي مكن المركز من الاستمرار ليحقق أول إنجاز على مستوى العالم لإنتاج طائر الحبارى تحت الأسر.
ولم يكتف سموه بهذا الإنجاز العالمي بل حرص على أن يغرقه بإنجاز آخر لا يقل أهمية، ألا وهو إعادة توطين الطائر في المواقع التي انقرض منها في المملكة، حيث تم تأسيس المحميتين اللتين خصصتا لذلك وهما (محازة الصيد وأم الرمث) على طريق الرياض - الطائف وتعتبر الأولى كما سبق أن ذكرنا ثاني أكبر محمية مسيجة على مستوى العالم، ويعود الفضل لسموه بعد الله في نجاح إعادة توطين الحبارى الآسيوية وتكاثرها في المملكة العربية السعودية.