تشهد الساحة الدولية أن سياسة المملكة العربية السعودية تقوم على مبادئ واضحة، ورواسخ ثابتة، لا تحيد عنها منذ تأسيس هذا الصرح الكبير على يد المؤسس الملك عبد العزيز طيَّب الله ثراه، الذي وضع دعائم صرح الوطن على كل ما من شأنه خدمة الإسلام الحنيف، وخدمة الحرمين الشريفين، وبناء الوطن والمواطن، وتبنّي قضايا المسلمين وتحقيق التضامن العربي، والإسهام الفاعل في خدمة الميدان الدولي لتحقيق الأمن والسلم والعدل والرخاء. وقد ترسخت هذه المبادئ في السياسة الخارجية للمملكة، وأصبحت تطبيقاتها وممارساتها نموذجًا يُضرب في صدق القول والعمل، في عالمٍ مَليء بالشعارات، وحافلٍ بالأقوال دون الأفعال، بل تتضارب فيه مقولاتُ وشعارات بعض الدول عمَّا تمارسه على أرض الواقع، فصارت بعض السياسات الخارجية مزدوجةً في معاييرها ومتناقضة في تصرفاتها، ومتلونةً في توجهاتها.
غير أن أمثال هذه السياسات بتصرفاتها التي يتناقض فيها القول والشعار مع الفعل والعمل، لا تلبث إلا وينكشف عوارها في ساحة العمل الدولي، الذي لم يعد الفاعلون فيه والمؤثّرون في مجرياته يُمكن أن يمرَّ عليهم ذلك التناقض مرَّ الكرام، أو يسكتون عليه بدعوى المجاملات السياسية أو الدبلوماسية. وقد ظهر ذلك جليًّا وبكل وضوح في الكلمة التي ألقاها صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل في الجلسة الختامية لأعمال مؤتمر القمة العربية الذي عُقد مؤخرًا بمصر الشقيقة في دورته السادسة والعشرين، وكانت كلمة سموه تعقيبًا على الرسالة التي وجَّهها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للقمة، فقد أوضح سموه وبعبقريته المعهودة وبذكائه المشهود ذلك التناقض العجيب بين ما تضمَّنته كلمة الرئيس الروسي وبين الممارسات التي يشهدها العالم على موقف روسيا الاتحادية ممّا يقوم به النظام السوري ضد شعبه مِن قتل وتدمير وتجويع وتشريد، لا يتحمّل الشرفاء المنصفون في هذا العالم الحياد نحوه أو السكوت تجاهه، وقد جاءت كلمة سمو الأمير سعود الفيصل منطلقة من سياسة المملكة الراسخة التي هو مهندسها الماهر العريق، واستند تعليقه على دبلوماسيته وصراحته، واتسمت مفرداته بالوضوح الذي لا يحتمل تأويلاً حين قال: «إن رئيس الاتحاد الروسي يتكلم عن المشكلات التي تمرُّ بالشرق الأوسط، وكأن روسيا ليست مؤثرة على المشهد، وعلى سبيل المثال سوريا هم يتكلمون عن مآسي الوضع في سوريا بينما هم جزء أساسي من المآسي التي تمسّ الشعب السوري، يمنحون الأسلحة للنظام السوري ما هو فوق حاجتهم لمحاربة شعبه، يمنحونه الأسلحة الإستراتيجية، وحتى بالأمس القريب يسلّمونه أسلحة ضد الأنظمة الدولية التي تعد من الأسلحة الفتاكة، وخصوصاً أن القانون الروسي نفسه يمنع روسيا من بيع السلاح للدول التي تستخدمه في الهجوم وليس الدفاع، وتساءل سموه متعجبًا عن جدوى وفائدة كلمة الرئيس الروسي وهي تتعارض مع حقيقة موقفه، فقال: «هل هو استخفاف بآرائنا حول مصالح العالم العربي في سوريا؟ هل هو عدم شعور بالكارثة التي حدثت في سوريا من أسلحة روسية؟ ثم أكّد سموه وأفصح عن جانب مهم في ذلك التناقض بين كلمة الرئيس الروسي ومواقفه وذلك في صورة تساؤل جاء فيه « ألا يجوز له وهو كان صاحب اختيار طريق جنيف واحد وطريق جنيف اثنين، ألا يحق لنا أن نسألهم كيف يمكن أن يدعو لهذا الحل السلمي وفي نفس الوقت يستمر في دعمه للنظام السوي وهو فاقد شرعيته وكلّ ما لديه من اتصالات في العالم المتحضر» .
وبدبلوماسيته الحاذقة الماهرة أشار صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل إلى أننا لا نريد أن نقف ضد روسيا أو لا نراعي مصلحتها، بل نأمل أن يتيح لنا المجال أن نتمكن من النظر إلى روسيا كبلد صديق يريد الخير للعالم العربي، وهكذا ألقى بمهارة الكرة في المرمى الروسي.
وكثيرة هي الدلائل والمؤشرات التي حملها مضمون كلمة سموه فقد عبّرت عن سياستنا الخارجية الراسخة التي لا تحيد عن مبادئ الحق والعدل والسلام، وحماية قضايا المسلمين والعرب، ومدّ يد التعاون والصداقة إلى كل مَن يسعى إلى ذلك، والعمل على دحر مؤامرات العدوان مهما كان مصدرها، وأيًّا كان من يقف وراءها.
هذه هي مبادئ السياسة السعودية التي اتسمت بها على مرّ عقود من الزمن، فلم يكن لمهندسها أن يجعل كلمة الرئيس الروسي تمرّ دون تعليقه عليها، أو إبداء ملاحظاته على ما تحمله من معانٍ تتناقض مع ما نشهده ويراه العالم من حولنا من ممارسات وتدخلات يكون نتاجها ما يجري من إبادة في الشعب السوري الشقيق.
وقد يقول قائل وهل الوضوح والصراحة من السمات التي يجب أن تسود في ميدان العمل السياسي؟ ولن نذهب بعيدًا للرد على ذلك ويكفي القول إن احترام الدول لمبادئها المعلنة في سياساتها الخارجية، وحرصها على أن يكون سلوكها متطابقًا مع ما تعلنه، يجعل هذه الدول موضع احترام وتقدير في عالم اليوم، ويجعل كلمتها مسموعة ومدوية عندما تتكلم، ويؤكّد الثقة في أفعالها إذا عملت، وتصبح دبلوماسيتها مصدر قوة لها، ويُحسب لها حسابها في المجتمع الدولي. وقد أضحى ذلك علامة بارزة في السياسة الخارجية للمملكة فهي تقوم على ثوابت محددة أوضحها صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل - في حديثه أمام مجلس الشورى - بأنها تجيء مبنيةً على ثوابت محددة أهمها الانسجام مع مبادئ الشريعة الإسلامية والدفاع عن القضايا العربية والإسلامية وخدمة الأمن والسلم الدوليين.. مع الالتزام بقواعد القانون الدولي.. والمعاهدات والمواثيق الدولية واحترامها.. وبناء علاقات ودية تخدم المصالح المشتركة مع دول العالم.. تقوم على الاحترام المتبادل.. وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.. وذلك في إطار خدمة مصالح الوطن.. وحمايته والحفاظ على سلامة أرضه واستقراره ونمائه.. ورعاية مصالح المواطنين.. وإعلاء شأن المملكة ومكانتها في العالم». وقد نالت هذه السياسة الراسخة احترام العالم وتقديره، وكان لها تأثيرها الواضح في تعديل وتغيير كثير من المواقف الدولية، وليس الموقف الروسي الذي كان معارضًا بشدة لصدور قرار من مجلس الأمن يُدين العابثين بأمن اليمن واستقراره ويضع حدًّا لتدخلات قوى إقليمية سعت لجرف اليمن إلى فتن عظيمة تنذر بمخاطر لا تحمد عقباها، أقول إن الموقف الروسي الذي تغير من المعارضة والتهديد باستخدام حق الفيتو ضد القرار إلى السكوت والامتناع عن التصويت، لا شك أن للدبلوماسية السعودية النشطة دورها في هذا التغيير، وهذا الدور النشط ينطلق من ثوابت السياسة الخارجية للمملكة المعروفة بها في مختلف ميادين العمل الدولي.
حفظ الله أمننا ووطننا وقيادتنا.
- وكيل الوزارة بوزارة الثقافة والإعلام، سابقًا