تعدّ المتاحف، على اختلاف أنواعها، أوعية حافظة لذاكرة المجتمع، وتاريخه، وموروثه الثقافي والاجتماعي، كما أنها تمثّل مراكز تثقيفية وتعليمية مهمة في أي مجتمع من المجتمعات، وتضطلع بدور مهم في غرس الشعور بالانتماء وتقوية الهوية الوطنية. ولا يقل دور المتاحف الخاصة عن المتاحف العامة في الحفاظ على الإرث الحضاري، ونشر الوعي بأهمية التراث، وتعميم المعرفة والثقافة المتحفية بين أفراد المجتمع، وتنشيط الحركة الفنية والعلمية في المجتمع، وكذلك تنمية الذوق الفني، والحس الجمالي لدى الفرد والمجتمع.كما لا يغفل دورها كعنصر من عناصر الجذب السياحي المهمة لكافة أشكال السياحة خصوصًا السياحة التراثية أو الثقافية، ولا تقتصر مساهمتها الفعّالة في تطوير وتنمية قطاع السياحة الداخلية فحسب، بل تعداها إلى الجذب السياحي للمهتمين بالتراث من جميع أنحاء العالم، فتسهم بذلك في تطوير وتنمية قطاع السياحة الخارجية الوافدة.
وتوجد بالمملكة العديد من المتاحف الخاصة، إلا أنها تواجه العديد من المهددات والتحديات والمشكلات، التي تعوق قيامها بالدور المنوطة بها. وفي مدينة جدة، يبرز متحف خاص متفرد، ومتميز في مساحته، وثرائه، وتنوع مقتنياته، وأساليب عرضها، وقيامه بدوره تجاه مرتاديه وتجاه مقتنياته. وهو متحف مدينة الطيبات العالمية للعلوم والمعرفة، وهو متحف يقترب إلى مرتبة المتحف الخاص النموذج على ما فيه من مآخذ. فعلى امتداد خمسين عامًا من الانتقاء والاقتناء، وعلى مدى خمسة عشر عامًا من البناء، وفوق مساحة عشرة آلاف متر مربع وبمساحة بناء ثمانية عشر ألف متر مربع، يتجسد صرح ثقافي فريد في مدينة جدة، وللمملكة أن تفتخر به كمتحف خاص تحكي مقتنياته، التي يصل عددها إلى عشرين ألفا، في تنوع وثراء ما بين المقتنيات الأثرية، والتراثية، والفنية، تاريخ حضارة المملكة العربية السعودية والحضارة الإسلامية وحضارات عالمية أخرى.
ما أن تعبر قدميك باب هذه المدينة حتى تأخذك في عوالم ناطقة من الحياة والفن عبر الزمان والتاريخ، في طوابقها أو أجنحتها الأربعة، وممراتها ودهاليزها، وغرفها التي تصل إلى ثلثمائة وخمس وستين غرفة، تكاد تنطق حياة وتاريخًا وفنًا وأدبًا.
تضمنت مباني هذا الصرح الثقافي الفريد ذات الطراز العمراني القديم، التي تمثل رؤية متكاملة للمتحف النموذج، فبالإضافة إلى المتحف الضخم، توجد المكتبة، ومدارس الفرقان لعلوم القرآن، وقاعة المحاضرات، وباحات للأنشطة الثقافية، وسوق تراثي، وبيت عبد الرءوف خليل التراثي.
وعبد الرءوف خليل هو مؤسس هذه المدينة (1358-1429هـ)، أراد منها أن تكون مركزًا حضاريًا للثقافة الدينية، والاجتماعية، والتراثية، والعلمية، والمعلوماتية، على أن تكون نموذجًا مصغرًا لإحياء وتجسيد نمط المباني التراثية بالمنطقة الغربية في المملكة العربية السعودية، التي تمتاز بكثير من العناصر التراثية في البيئة، والعمارة، والتخطيط. وعبد الرءوف خليل الذي ولد في حارة اليمن بجدة، ودرس علوم الطيران ووصل إلى رئيس الطيران المدني بالمدينة، شخصية فريدة جديرة بالاحترام والتقدير، فقد كان ولعوعًا بالتراث وجمعه، مهتمًا بتاريخ وحضارات الأمم، محبًا للتراث الإسلامي خاصة الأعمال المعمارية والثقافية، وكان مرجعًا تاريخيًا وتراثيًا وموسوعة ثقافية، أفنى حياته من أجل جمع وحفظ الكثير من التحف الثمينة والمصوغات الذهبية والفضية، وكل ما تقع عليه عينه من أعمال فنية وتراثية من المزادات وصالات بيع التحف يكلف اقتناؤها ملايين الدولارات ليجمعها في هذا الصرح الثقافي الكبير الذي استمر بناؤه 15 عامًا، وتم افتتاحه عام 1418هـ ليضيف إلى مدينته وبلده صرحًا ثقافيًا مميزًا تفتخر به.
وقبل هذه المدينة كانت المقتنيات في متحف له في شارع التحلية بحي الحمراء بجدة الذي افتتح رسميًا عام 1406هـ ولكنه تعرض لحريق عام 1423هـ وبقي منه مبنى واحد من طابقين، وتم نقل المحتويات منه إلى المبنى الحالي الذي كان مبرة خيرية. وهناك متحف آخر أنشأه عبد الرءوف خليل كان سكنه الخاص الذي تم تحويله إلى متحف منذ عام 1418هـ ويسمى متحف الفنون المنزلية. إنه شخصية فريدة جديرة أن تذكر بكل خير.
وعودة إلى مدينة الطيبات، فقد تم تصميم واجهتها بالخشب المزخرف على الطراز الإسلامي. والمبنى مكون من أربعة طوابق أو أجنحة، الأرضي منها خصص للثقافة العامة وتطور الحضارات الإنسانية ويحتوي على مجسمات ونماذج من العمارة التقليدية وحضارات ما قبل التاريخ، ولوحات. وهناك قاعات مخصصة للعلوم الكونية والعلوم الطبية، ورحلة الإسلام ومعلومات إسلامية.
الطابق الأول أو جناح الحضارة الإسلامية، يتضمن قاعات للمخطوطات، وكسوة الكعبة، والأدوات العلمية، ومقتنيات الزجاج، والخزف، والكريستال، والمشغولات المعدنية، والخشبية، والعاجية، ومنتجات الحجر والجص، والسجاد، والأبسطة، والأسلحة، والملابس القديمة، موزعة على ثلاث وثلاثين قاعة.
والطابق الثاني، وخصص للتراث السعودي ويركِّز على تاريخ الملك عبد العزيز -رحمه الله- مؤسس الدولة السعودية، ويتضمن مقتنيات تؤرخ لتاريخ المملكة منذ تأسيسها حتى وقتنا الحاضر. فيحتوي على أنواع الملابس البدوية والحضرية، التي مثّلت مختلف المناطق والقبائل وأنواع الأدوات المنزلية التي كانت تستعمل في البادية والحضر في المملكة العربية السعودية، والعملات، والعاج والأحجار، والأسلحة المعدنية، والنارية (البارود)، بخلاف نماذج لأنواع المباني التقليدية للمنازل القديمة.
أما الطابق الثالث والأخير فخصص للتراث العالمي ويتضمن قاعات مخصصة للفنون المختلفة المعدنية، واللوحات الفنية المنوعة منها الزيتية والمصنعة من المعادن أو السجاد.
ويتميز المتحف بضخامة بنائه، وثراء مقتنياته، الثراء التاريخي والمادي والفني، فمنها ما ينتمي لحضارات قديمة كالحضارة الإسلامية وبعضها للمصرية القديمة والصينية والأوروبية وحتى العصور التاريخية والحديثة، كما تتنوع محتويات المتحف في موادها وأحجامها وأشكالها وطريق عرضها.
كما يحتوي المتحف على العديد من المجسمات لحيوانات وأناس بحجمهم الطبيعي، إلى جانب الآلات الموسيقية القديمة، وثروة هائلة من اللوحات الفنية المنوعة ما بين اللوحات الزيتية والأعمال الفنية المنفذة على حوامل من مواد مختلفة حتى من السجاد، حيث توجد مجموعة فريدة وغاية في الجمال من اللوحات الفنية المنفذة على شكل سجاد، وكذلك أعمال فنية للخط العربي منفذة بالطرق أو الحز على النحاس في غاية الجمال والروعة، وغيرها من المقتنيات المُهمة. والمتحف يتميز في بعض القاعات بتنوع في أساليب العرض ما بين العرض في خزائن العرض الوسطية في الممرات أو القاعات، والعرض الحائطي وخصوصًا للوحات الفنية المختلفة والعرض المفتوح أو المغلق في فاترينات أو خزائن عرض محكمة الغلق وخصوصًا للمقتنيات الثمينة أو الأثرية. وروعي في العرض إظهار المعروضات بطريقة مباشرة تسر العين وتبهج المشاهد أو الزائر، كما روعي فيه الاستفادة القصوى من تلك المعروضات باعتبارها وسيلة لنقل المعرفة والثقافة. وهو ما يضفي على العرض قيمة في هذا المتحف، إذا ما قارناه بالمتاحف الخاصة الأخرى في المملكة، على ما فيه من مآخذ سوف نشير إليها.
والمتحف يقع في منطقة حيوية ونابضة بالحياة فمن حوله تجد مسجد سيد الشهداء في جدة، ومستشفى الملك فهد، كما أن الوصول إليه أمر سهل، وهذه من متطلبات اختيار موقع أي متحف.
والمتحف يقوم بدوره المنوط به تجاه مرتاديه، فيحتوي على قاعة للمؤتمرات والندوات أيام المناسبات مثل اليوم الوطني، وفي رمضان، كما يحتوي المتحف على مكتبة ضخمة، تحتوى على آلاف الكتب في مجالات وتخصصات مختلفة، وهي من المتطلبات التي ينبغي توفرها في أي متحف. وهناك برحات بين المنازل التقليدية يتضمنها مبنى المدينة تقام فيها أنشطة ثقافية وتراثية بل واجتماعية متنوعة، مثل: حفلات الإفطار الجماعي في رمضان، وحفلات المأكولات الحجازية الشعبية، والفرق التمثيلية لحلقات الكتاتيب، ومراسم الزواج على الشكل التراثي، واستعراض لوسائل النقل التقليدية القديمة وغيرها. وهو ما يضيف إلى المتحف دورًا آخر كونه يحي التراث الثقافي الشفهي ويحافظ عليه، وهو من الأمور النادر وجودها في متحف من المتاحف الخاصة وحتى العامة منها، وهو ما يحوِّله، وخصوصًا في بعض فترات العام لا سيما في شهر رمضان، إلى ملتقى مفتوح يضم أطياف اجتماعية، وثقافية وإعلامية وأدبية متنوعة.
ومع هذا كله، فإن المتحف في حاجة إلى تجاوز بعض السلبيات فيه، ومنها أنه على الرغم من اتساع مساحته إلا أن الزائر له يلحظ تكدس ملحوظ، كعادة الكثير من المتاحف الخاصة، حتى أن بعض الممرات الضيقة تحتوي على مقتنيات عديدة. وإن تتابع الأعمال وكثرة المقتنيات تصيب الزائر بالتشتت البصري، فلا تسمح بتأمل بعضها، ويذكرني ذلك بقول الشاعر العربي القديم: تتابعت الظباء على حريشٍ... فما يدري حريشٌ ما يصيدُ. فطبيعة العرض لبعض المقتنيات وإمكانها لا تسمح بتأملها، فهناك بعض اللوحات الزيتية فائقة الجمال موضوعة على الدرج بين الطوابق، كما أن بعضها أيضًا معلق على يمين ويسار ممرات ضيقة جدًا لا تسمح سوى بمرور فرد واحد لا يدري أينظر يمينه أم يساره.
كما يلاحظ الافتقار إلى التنسيق في العرض، فتارة نجد اختلاط المقتنيات ذات القمية الأثرية والتراثية بالحديث منها وحتى المستنسخ، واختلاط المقتنيات ذات الطبائع أو المواد المختلفة مع بعضها البعض، والأفضل أن تكون هناك قاعات مخصصة للمواد ذات الطبيعة المتشابهة مثلاً: قاعة للأقمشة، وأخرى للمشغولات النحاسية، وثالثة للوحات الزيتية، ورابعة للمشغولات الخشبية، وخامسة لمشغولات الفخار والفاينس وهكذا، أي العرض النوعي الذي يمكن من خلاله تتبع التسلسل التاريخي لها. وأهم ما يلفت النظر في هذا المتحف غياب الرؤية المتعلقة بالحفظ والصيانة أو الترميم، فمع وجود هذا الكم الهائل من المقتنيات، فالمتحف في حاجة إلى أن يلحق به معمل صغير للترميم والصيانة، كعادة أي متحف، وهو ما تحتاج إليه بعض المقتنيات في الوقت الحالي، ولسوف تحتاجه مقتنيات أخرى إليه مستقبلاً، فهناك بعض القطع وخصوصًا الأثرية منها كالتحف المعدنية المصرية تعاني من مرض البرونز الواضح الذي سوف ينتشر فيها وقد يقضى عليها في سنوات، وكذلك بعض القطع التي تعرضت للحريق من قبل وغيرها من المقتنيات الضعيفة مثل المنسوجات والجلود والمخطوطات التي تتطلب ظروفا وإجراءات خاصة من الحفاظ والصيانة حتى تظل على حالتها. وعلى الرغم من وجود تكييف مركزي متحكم فيه، فإن الحاجة تتطلب ضبط درجات الحرارة ومعدل الرطوبة عند الحد الذي لا يسبب ضررًا للمقتنيات وخصوصًا العضوية منها (ذات الأصل النباتي أو الحيواني) والكثير من المقتنيات من هذه النوعية، فلا يجب ألا تزيد درجات الحرارة عن 25 درجة مئوية ولا تزيد الرطوبة النسبية عن 45-50 في المائة، ويجب أن تحتوي فاترينات العرض وقاعاته على أجهزة قياس الرطوبة أو ضبطها.
والملحوظة الأخرى تتمثل في أسلوب الإضاءة ونوعية وسائل الإضاءة المستخدمة، فعلى الرغم من أن الإضاءة من الأمور المهمة في إبراز قيمة المعروضات إلا أن الإسراف فيها، واستخدام نوعية من الإضاءة المتوهجة، سوف ينتج عنها أشعة ضارة للمقتنيات المتحفية، مثل: الأشعة فوق البنفسجية أو الأشعة تحت الحمراء ذات التأثير المتلف على المنسوجات والمخطوطات، والجلود، واللوحات الزيتية والفنية وغيرها من المقتنيات، مما يتطلب التخلى عن هذه النوعية من الإضاءة واستبدالها جميعًا بلمبات الفلورسنت أو وضع مرشحات عليها. هناك بعض القاعات تم استغلال جدرانها بصورة لا تتفق وجلال المباني التراثية أو المتحف التراثي في رسومات وتصاوير متواضعة وكتابات شعرية، مع تقديرنا لها، قد لا تتفق وجلال المكان التراثي والفني العالي. وبعض المعروضات تحتاج إلى بطاقات شارحة مفسرة لها، ويحتاج المتحف إلى وجود مخزن متحفي يمكن من خلاله معالجة التكدس الموجود في المعروضات فيتم تخزين بعضها على أن يتم تجديد المقتنيات المعروضه من وقت لآخر بأخرى من المخزنة وبذلك يفسح مجال لتأمل المعروضات ويعطي حيوية للعرض. أخيرًا يحتاج المتحف إلى تسويق سياحي وإعلامي جيد ووضعه على الخريطة السياحية للمملكة ومدينة جدة حتى تعم الفائدة ويقوم بدوره المجتمعى كصرح ثقافي مميز.
- د. محمد أبو الفتوح غنيم