يواجه المجتمع في أوقات الأزمات تحديان نوعيًان، يتطلبان التناغم والتعاون، التحدي الأول ومصدره خارجي، ويتمثل في الخصم وأعوانه، والتحدي الثاني ومصدره داخلي، ويوجّه للآمنين من المواطنين والمقيمين داخل المجتمع، وتتطلب مواجهة التحديين السلاح النوعي ومهارات القوى العسكرية، وهذا متوافر للمملكة العربية السعودية وبكفاءة، ويعمل بحزم وفق خطط مدروسة ولله الحمد.
ويستهدف التحدي الثاني إلى إثارة قلق السكان وتشكيكهم في قوة الأمن الداخلي، وتتمثل مصادره في قنوات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام والخلايا النائمة.. وقد جعل الله تعالى الإسلام ديناً صالحاً لكل الظروف المكانية والبشرية والزمنية، وسن أخلاقيات تضبط وتوجه سلوك السكان في هذه الظروف خدمة لدينهم ولهم ولمجتمعهم؛ والعمل بها من مؤشرات المجتمع المسلم الحقيقي.. واقتصر العرض التالي على أخلاقيات المواطن؛ لأنه هو الأساس، فإذا انضبط كان قدوة للمقيمين، وهي كثيرة وتتوزع إلى مجالات ومنها:
أولاً: أخلاقيات المواطن نحو ربه.. ومن أخلاقيات هذا المجال:
* اللجوء إلى الله:
وهذا الخلق يتطلب من المواطن أن يخلص النية لله تعالى، ويصدق في لجوئه إليه، ويقر بالتقصير في الطاعات، ويعزم على ترك الذنوب والمعاصي، قال الرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (بادروا بالأعمال الصالحة، فستكون فتناً كقِطع الليل المظلِم، يصبح الرجل مؤمنًا، ويُمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دِينه بعرَض من الدُّنيا) رواه مسلم. والعمل الصالح وسيلةٌ للثبات عندَ الفتن التي يضطرب الواحدُ فيها ويتشكَّك من أمرها، فيُمسي على حال ويُصبح على أخرى، ويرى وكأنَّه في حُلْم؛ قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} «النساء: 66». وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} «البقرة: 45».. وكان صلَّى الله عليه وسلَّم إذا حزَبَه أمر نابه وألَمَّ به أمرٌ شديد صلَّى رواه أبو داود.
* الدُّعاء والتضرع:
وهذا الخلق يتطلب الثقة بالله، وبقدرته على تصريف الأمور، وتغيير الأحوال وتبديلها.. قال تعالى عن نبيِّه نوح عليه السلام: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} «القمر: 10»، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} «المؤمنون: 76». وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: (أعْجَزُ الناس مَن عجَز عن الدعاء) رواه البخاري. ولا يعرف العبدُ طريقَ الهُدى ولا يجده إذا اشتبهتِ الأمور، والْتبس على الجمهور حتى يهديَه الله تعالى في الحديث (يا عبادي، كلُّكم ضالٌّ إلا مَن هديتُه فاستهدوني أهْدِكم). لذا كان صلَّى الله عليه وسلَّم يفتتح صلاتَه إذا قام مِن الليل قائلاً: (اللهمَّ ربَّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطِرَ السموات والأرض، عالِمَ الغيب والشهادة، أنت تحكُم بين عبادِك فيما كانوا فيه يختلفون، أهدني لما اختُلف فيه من الحقِّ بإذنك، إنَّك تَهدي مَن تشاء إلى صراطٍ مستقيم) رواه مسلم.
ثانياً: أخلاقيات المواطن تجاه نفسه: ومن أخلاقيات هذا المجال:
* علو الهمة:
ويستدعي هذا الخلق أن تتوافر للمواطن العزيمة الصادقة والهمة الصلبة والإرادة القوية؛ لتحمل مواجهة الشدائد والمواقف الصعبة على اختلافها. ويستمد قوته هذه من قوة عقيدته، وثقته في نفسه، وأمله في زوال الصعاب من أمله بتوفيق الله ونصره. قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} «49 سورة القمر».
* قوة الشخصية:
ويعني هذا الخلق أن يكون المواطن قادراً على التمييز بين السلوك المقبول والسلوك المرفوض في وقت الأزمات فلا تحركه العواطف والأهواء ولاسيما إذا كان نموذجاً يحتذي به الآخرون، فانضباطه يعبر عن سيطرته على فعاليات الأزمات، واضطرابه يجعل من حوله قلقاً وربما تصدر عنه تجاوزات تخالف الشرع وتعليمات قوى الأمن.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا يكن أحدكم إمعة يقول أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا أسأت ولكن وطًنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وأن أساؤوا أن تجتنبوا إساءتهم) رواه الترمذي.
ثالثاً: أخلاقيات المواطن نحو مجتمعه.. ومن أخلاقيات هذا المجال:
* التأني والحلم
ويتطلب هذا الخلق أن يتحرى المواطن الدقة في مصادر معلوماته، وبالتالي يميز بينها، ولا ينقل شيئاً إلا بعد تأكده؛ لئلا يتسبب في تشكيل أخبار مختلقة تسيء له وللآخرين. قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} «الإسراء: 53». وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: (مَن كان يؤمِن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت) متفق عليه. وقال ابنُ مسعود رضي الله عنه: (ما أنت بمحدِّث قومًا حديثًا لا تبلغُه عقولهم، إلا كان لبعضِهم فِتنة) رواه مسلم. كما يتطلب هذا الخلق أن يتحكم الفرد في انفعالاته وعواطفه وبالتالي يعمل على توجيهها الوجهة المثلى قال تعالى: { أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} «29 سورة الفتح»، وقال جل وعلا {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن} «فصلت:34».
* الالتفاف حول القيادة:
ويتطلب هذا الخلق الترفع عن التفكير في مشكلات الحياة ونواقصها، والتعبير بأجمل مظاهر الانتماء والولاء لها، واحترام مبادئها وإرشاداتها، والثقة في خططها، والدعاء لها بالقوة والتمكين والنصر. قال تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً} «الإسراء:34»، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} «النساء:59»، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (السمع والطاعة حق على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يأمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع عليه ولا طاعة) رواه البخاري.
* الرجوع إلى العلماء:
العلماء هم ورثة الأنبياء، ومصابيح النور الذين يعملون على نشر العلم النافع ويدعون إلى وحدة الصف، قال تعالى: {فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} «النحل: 43»، وقال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} «فاطر: 28» ، وقال الحسنُ البصريُّ رحمه الله: (إنَّ الفِتنة إذا أقبلت عرَفَها كلُّ عالم، وإذا أدبرت عرَفها كلُّ جاهِل). فما أحوجَ المجتمع في طغيان الفِتنة إلى الارتباط بالعلماء الربانيين.
* التكاتف:
ويتطلب هذا الخلق الاعتصام بحبل الله، وتجاهل الخلافات بين شرائح المجتمع، وتغليب المصلحة العامة، واحترام الخصوصيات، وتجسيد اللحمة الوطنية في أزهى معانيها ومظاهرها، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: (مَثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفهم مَثَل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تَدَاعى له سائر الجسد بالسَّهَر والحمَّى) رواه مسلم، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: (لا يُؤمن أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسِه).
* حفظ الأمن:
الأمن مطلبٌ شرعي، ومنحة إلهية؛ ويتطلب تفعيل الأخلاقيات السابقة، قال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} «قريش: 3 - 4»، وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} «الأنعام: 82». وقال الشاطبيُّ رحمه الله: (أهم ما تقوم عليه حياةُ الناس الأمْن الذي تطمئنُّ به الناس على دِينهم وأنفسِهم، وأموالهم وأعراضهم، فالأمن مقصودٌ به سلامة النفْس والمال، والعِرض والدِّين والعقل، وهي الضروريات التي لا بدَّ منها لقيام مصالح الدِّين والدنيا، وقد اتَّفق الفقهاءُ على أنَّ أمْنَ الإنسان على نفْسه وماله وعِرضه شرْطٌ في التكليف بالعبادات).
* حرمة ما عصمه الله تعالى:
من دماء وأموال وأعراض. قال صلَّى الله عليه وسلَّم: (إنَّ دماءَكم وأموالكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ كحُرْمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهرِكم هذا) رواه البخاري. وهي أوَّل ما يقضي الله تعالى فيه بين العِباد من حقوقِ العباد، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: (لا يزال الرجلُ في فُسْحةٍ مِن دِينه ما لَم يُصِبْ دمًا حرامًا لمسلِمٍ كان أو لذِمِّي، أو مجاهد، أو مستأمن على غير الملَّة). وتشتدُّ الحرْمة بالنسبة للمسلِم؛ فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: (لزوالُ الدنيا أهونُ على الله مِن قتْل رجل مسلِم) رواه الترمذي. وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: (لحُرْمةُ المؤمن أعظمُ عند الله من حُرْمة الكعبة، ماله ودمه) رواه الترمذي.
* الابتعاد عن الغدر:
الغدرَ خلق ذميم لا يليق إلا بضعاف النفوس، والتلونُ والتقلبُ من مظاهر الغدر، قال الله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ}، وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تجد من شرار الناس يوم القيامة منزلة عند الله ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه) رواه البخاري ومسلم.. ومعنى شرار الناس أي من أسوأهم خُلُقاً وأكثرهم فساداً، وذو الوجهين هو المنافق الذي يتخذ مواقف مختلفة ويتلون حسب المصلحة الخاصة. فيجب على المسلم أن لا يترك فرصةً لمن يتلون وفق مصالحه، قال صلى الله عليه وسلم (إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر فطوبى لمن جعله الله مفتاح خير مغلاق شر وويل لمن جعله الله مفتاح شر مغلاق خير) رواه البخاري.
هذه بعض أخلاقيات المواطن تجاه الأزمات وفق مجالاتها التي تلم بالمجتمع المسلم، والتي يحرص العدو على خلخلتها لديه ليتحقق له التأثير النفسي المضاد، وبالتالي تشكيل اتجاهات سالبة نحو ربه والعياذ بالله، ونفسه ومجتمعه.. اللهم تفضل على عبادك بالتفقه في دينك، والعمل به، وأحفظ بلادنا وبلاد المسلمين.. آمين.
المراجع:
- القرآن الكريم.
- الإمام مسلم (1972) صحيح مسلم، ج5، بيروت: المكتب الإسلامي.
- أبو داود (بدون تاريخ) سنن أبي داود. -كتاب الصلاة.
- البخاري، محمد (1987) الجامع الصحيح.. بيروت: دار القلم.
- الترمذي(1975)سنن الترمذي. القاهرة: مكتبة مصطفى الحلبي.
- علوان، عبدالله (1999) تربية الأولاد في الإسلام، الجزء الأول.. القاهرة: دار السلام للطباعة والنشر.
- القاضي، سعيد إسماعيل (2004) التربية الإسلامية بين الأصالة والمعاصرة، القاهرة: عالم الكتب.
- الشاطبي، أبو أسحاق (2008) الموافقات، الجزء الأول، القاهرة: دار ابن عفان.
- النحلاوي، عبدالرحمن (1995) أصول التربية الإسلامية في البيت والمدرسة والمجتمع، دمشق: دار الفكر.
** **
Malnooh@ksu.edu.sa