تنفست المدينة الصعداء وهي تزيل ركام الصبات الإسمنتية الحمراء من على صدرها؛ وانتظمت أنفاسها بفضل تحررها من اختناق الطرق المزدحمة، والأدخنة التي تنبعث من عوادم السيارات التي تشق الشوارع ببطء سلحفائي وهي تعبّر عن مللها بزعيق لا ينقطع من أبواقها.. وتَنَاغمَ نبضُها أخيراً مع ديناميكية نشاطها وفتوتها: حلم ظلت تستشرفه بلهفة لتشهد من خلاله تحولها إلى «العصرية» بكل ما تعنيه الكلمة وتحمله دلالاتها.
وكانت الأحداث التي تسبق هذا الحدث ليتحقق هذا الحلم، أيضاً، كبيرة في دلالاتها، فقد أضحت المدينة ورشة عمل لا ينقطع هدير آلاتها ليلَ نهار، وتسابق المسؤولون في قمة القيادة ومن عامة قاطنيها ليدفعوا مهر الانطلاق الكبير نحو المستقبل.
هذا هو الحلم الذي تعيشه عاصمة المملكة العربية السعودية الرياض، وسيصبح واقعاً بحلول عام 2018 مع انطلاق مشروع الملك عبدالعزيز للنقل العام، وانطلاق قطار الرياض عبر طرقاتها وأنفاقها، والذي يعدّ أكبر المشروعات العالمية التي تنفذ حالياً، إنه ببساطة ومن غير مبالغة، الإنجاز الإعجاز، التفاتاً إلى حقيقة أن رصفاءها من المدن العالمية مثل مدن لندن ونيويورك وطوكيو، كان تنفيذ شبكاتها للمترو يتم بالتدرج، ولكن قطار الرياض الذي يمتد في 6 مسارات، تشمل المدينة كلها بطول 175 كليومتراً فوق الأرض وتحت الأرض، يتم تنفيذه على مدينة قائمة بكل منشآتها وهي تواصل مختلف أنشطتها ومع وديمومة حركتها التي لا تنقطع، وبكل ما في هذا العمل من تعقيدات وتحديات، وأنه يجري في كل هذه المسارات المتداخلة في وقت واحد، وخلال فترة تعدّ بالنسبة إلى حجم هذا المشروع الكبير، قصيرة بكل المقاييس.
فوق ذلك، فقد كانت المدينة العريقة محظوظة بأن يحمل مشروعها الكبير رؤية أن «تأتي متأخراً لتكون أولاً» في كل تفاصيله، فاستفاد قطار الرياض من كل تجارب الدول المتقدمة في هذا المجال، وبذلت أمانة الرياض وهيئة تطوير الرياض وإداريوها ومهندسوها جهداً جباراً، مستعينين بأفضل الخبرات العالمية، ومعاينة تلك المشروعات على أرض الواقع بإيجابياتها وسلبياتها لتكون الخلاصة هذا المشروع الحلم، فمنذ وقت مبكر قامت الهيئة العليا بمشاركة المختصين في أمانة الرياض ووزارة النقل العام ووزارة المالية بزيارة أكثر من 15 مدينة من كبريات المدن العالمية، كواشنطن وتورنتو ولندن وباريس ومدريد وملبورن وميونخ للاطلاع على آخر ما توصلت إليه التقنية في هذا المجال، وفي عام 1428 شكلت الهيئة فريقاً من المختصين في مجال النقل العام لمراجعة الدراسات والتصاميم التي قامت بها من الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وفرنسا وإسبانيا وإلمانيا ليصبوا خبرات بلادهم في مشروع قطار الرياض: حلم الرياض.
لقد بات تحقيق الحلم في خاطر سكان الرياض أقرب من أي وقت مضى بعد تولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز مقاليد الحكم في البلاد، وهو باني الرياض الحديثة، من مدينة صغيرة إلى عاصمة عملاقة يشار إليها بالبنان، وهو، حفظه الله، من كان مشروع قطار الرياض من ومض فكره وفيض رؤآه، وتتابعت بقدومه وتصاعدت وتيرة التنمية في طول البلاد وعرضها، ووجدت العاصمة أولى البشريات بتعيين سمو الأمير فيصل بن بندر بن عبدالعزيز أميراً للرياض، بكل ما يحمله من تجارب ثرة وفكر تطويري، وتفاعل سكان الرياض مؤخراً مع تركيب آلة الحفر العملاقة التي يماثل وزنها وزن برج الفيصلية، ومشاركتهم في إطلاق اسم لها، وكأن الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض تبشّر بميلاد مرحلة جديدة.
إن الغرض الرئيس الذي يتبادر إلى الذهن مباشرة من وراء مشروع النقل العام هو فك الازدحام الشديد والمستعصي من على طرق العاصمة، ولكن أهدافاً أخرى عظيمة سيخلفها هذا المشروع العملاق، اجتماعية واقتصادية وأمنية، أنه أمر له تداعياته الإيجابية في تمتين أواصر العلاقات الإنسانية في نسيج المجتمع، وله انعكاساته في السلوك البشري وفي إنتاج الأفراد الذين سيشعرون بالراحة وهم قادمون إلى أعمالهم في مواعيدهم من غير توتر أو خوف من الحوادث التي ظلت سمة بارزة لشوارع المدينة، وتوفير ملايين الساعات التي كانت تهدر سدى، والحفاظ على العنصر البشري الذي هو محرك التنمية وهدفها على حد سواء.
ثم أن الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض كانت حاضرة بقوة في إدارة ملف تشغيل الكفاءات السعودية في المشروع وهو أمر كان هدفاً مقصوداً في حد ذاته، بحيث تم تعيين المئات من الشباب السعودي الواعد من المهندسين، هؤلاء يستقون التجارب من خبراء عالميين من الائتلافات المشاركة في المشروع من شركات جبارة، لم تجتمع بهذا الحجم في مشروع قبله، وأنت تتحدث عن شركات رائدة عالمياً تصنيعية وهندسية وفي إدارة المشروعات وتسليمها مثل سيمنس الألمانية وبكتل الأمريكية، وبومبارديه الكندية وامبريجيلو الإيطالية وسيتيك الفرنسية وسامسونج الكورية، وشركة مثل لويس برجر العالمية من فئة المليار التي ساعدت عملاء في أكثر من 50 دولة عبر القارات على حل أكثر التحديات تعقيداً في مشروعات عملاقة وخلاقة، هؤلاء المهندسون السعوديون الشباب سيحملون لواء بناء بلادهم وإدارة المشروعات التنموية في واحدة من أكثر بلدان العالم نشاطاً في مجال البناء والتنمية.
ولكم أن تقفوا مندهشين أمام محطات مشروع القطار الكهربائي الرئيسة عند تقاطع مسارات القطارات والتي تمثل أهم عوامل نجاح نظام النقل العام لوقوعها في مناطق عالية الكثافة، ولاحتوائها على كل ما يجعلها جاذبة لقاطني المدينة وزوارها من تقنيات ومحلات تجارية وترفيهية، وقد أخضعت لمنافسة عالمية فجاءت تصاميمها الهندسية والمعمارية لوحات أخاذة ستتخلل بكل ألقها ورونقها نسيج العاصمة المعماري والحضاري.
فهل ستكون رياض ما بعد عام 2018 هي رياض ما قبله نفسها؟، أم أن مشهداً جديداً ومثيراً سيصحوا سكان الرياض في ذلك التاريخ ليجدوا حلمهم وحلم مدينتهم وقد أضحى واقعاً جميلاً على الأرض.. فلننتظر رفع الستار.