تشهد المملكة العربية السعودية هذه الأيام نقلة سياسية ودستورية تنفيذية يمكن أن تعد بكل المقاييس نقلة تاريخية ووثبة عالية تستشرف أبعاد المستقبل الرحيب بالنهضة الأرحب.. فمنذ أن بارك الله العلي القدير قيام المملكة الميمونة على يد مؤسسها جلالة المغفور له بإذن الله الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل عام 1343هـ كان من أولى أولوياته اختيار الأكفاء والنجباء لإدارة الدولة الناشئة وقد قام بتبيان فلسفته في الاختيار الأوفق لإدارة شأن الدولة العام حينما وضع تلك المعايير الحكيمة والتي أصبحت ديدناً ونبراساً يهتدى به وتقاس بمقاييسه الكفاءة والفاعلية.
كل هذه المعايير أثبتها مؤسس المملكة العربية السعودية في خطابه الأول للعلماء والأعيان حينما أعطى الوصف الدقيق للاختيار بقوله: أريد رجالاً يعملون بصدق وعلم وإخلاص، وبذلك تحددت سمات قادة إدارة العمل العام بالصدق وصفاء التوجه وحسن النية والابتعاد عن المداهنة والرياء. أما صفة العلم بالأمر وبواطنه فتُكسب الصادق من القادة القدرة على اتخاذ الصواب من القرارات والبعد عن الخطل الإداري. أما الإخلاص فهو شيمة لابد منها للوصول لمقاصد الدولة السامية، فالإخلاص يقصد به التوجه الذاتي والموضوعي لإنجاز التكاليف وعدم البخل في العطاء بالنفس والوقت وبكل ما يتطلبه حمل المسؤولية الملقاة على العواتق.
وكان تأسيس تقاسم المسؤولية في ذلك الخطاب مبنياً على تكامل الأدوار القيادية والاشتراك الفعلي في قوله: حتى إذا أشكل عليّ أمر من الأمور رجعت إليهم في حله وعملت بمشورتهم فتكون ذمتي سالمة وتكون المسؤولية عليهم. وهذا يعتبر إيضاحاً بليغاً لعظم المسؤولية وضرورة التصدي لنتائجها والتحسب لذلك بكل الوسائل.
والملاحظ أن رغبة التطوير والتجويد في الأداء الدستوري للدولة كان سمة ملازمة للتطور الاقتصادي والاجتماعي للدولة منذ النشأة الأولى وحتى يومنا هذا، ولبرهان هذه الرغبة في التطوير والتأسيس الراشد نسوق في هذه العجالة أن فكرة تنظيم الدولة تمثلت لبنتها الأولى في التعليمات الأساسية لتنظيم الحكم والذي صدر عن الهيئة التأسيسية عام 1345هـ لإدارة شأن الدولة الحجازية ثم تلاه بعد ذلك الأمر الملكي في المادة السادسة منه بالتوجيه لوضع نظام أساسي للحكم ونظام لتوارث العرش ونظام لتشكيلات الحكومة.
كذلك ظل البحث عن الأجود والأصلح ملازماً لجلالة الملك خالد رحمه الله، فكان أن أصدر أمراً ملكياً بتشكيل لجنة رفيعة المستوى تتكفل بوضع النظام الأساسي للحكم ونظام مجلس الشورى ونظام المقاطعات في صورة نهائية وترأس تلك اللجنة صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية في حينه وذلك عام 1400هـ، وظلت اللجنة تبذل جهدها المضني حتى صدر الأمر الملكي من قبل خادم الحرمين الشريفين الملك فهد -رحمه الله- عام 1412هـ والذي حوى النظام الأساسي للحكم، حينها قام خادم الحرمين الشريفين بتأكيد عملية التواتر الدستوري وحتمية التطوير في خطابه الذي أشار فيه إلى التمسك بهدى الشريعة الإسلامية الغراء والثبات على موجهات المنهج الرئيسي للملك عبدالعزيز والتأكيد على أن النظرية والتطبيق الدستوري في المملكة ما هو إلا توثيق لشيء قائم وصياغة لأمر واقع معمول به.
فالمملكة العربية السعودية شهدت في الأيام الفائتة وتشهد منذ تولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- زمام الحكم اتخاذاً لقرارات تاريخية شجاعة تنبئ عن تفرد وأصالة وتفصح عن إقدام وحكمة، وكل ما تقدم مؤسس على تجربة دستورية وحنكة قيادية متواترة تم استقاؤها من خير سلف برغبة مخلصة في المضي نحو الأرحب والأجود من التطبيق وذلك خدمة لمصلحة الدين والدنيا والبلاد والعباد.
إن نظام مجلس الوزراء في أحكامه العامة والتي تشترط في عضو مجلس الوزراء أن يكون مشهوداً له بالصلاح والكفاية وأداء العمل بالصدق والأمانة والإخلاص كما في المادة الثالثة من النظام لهو امتداد طبيعي لتلك التعاليم النيرة التي أسست لهذا البلد المبارك.
لقد تمثلت هذه القرارات التاريخية لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بمساندة وإسناد الشرعية في اليمن واستئصال بؤرة تهديد الأمن القومي السعودي المتمثلة في فلول الحوثيين وذلك باتخاذ القرار الصائب باستباق العدوان على المملكة والقيام بضربة عربية ذات قيادة سعودية وقوة تتشكل حول مقدرات الردع العسكري السعودي، وقد أنجزت المهام الداخلية بقيادة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف ويتم إنجازها بتأمين الجبهة الداخلية ضد الأعمال الإرهابية وتأمين ظهر القوات الباسلة بطريقة أفصحت عن انطباق الاشتراطات المسبقة في الأنظمة الدستورية من حيث الإخلاص والعلم والكفاية في سموه الكريم، وما تضحيته بالنفس لإيفاء المسؤولية إلا خير دليل على التفاني وصدق التوجه والاحتساب.
أما الوجه المشرق الخارجي لعاصفة الحزم والذي صعد بالقوات الشبابية الدبلوماسية والعسكرية لواجهة الأحداث فقد كان مرسوماً على محيا صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان الذي قاتل على كل الجبهات بكفاءة نادرة وهمة لا تفتر وعزيمة لا تكل ولا تمل حاملاً راية الدبلوماسية السعودية بالتفاوض الحازم المرن متسماً بحساسية المواقف وصولاً لأهداف الدولة الاستراتيجية فتكلل ذلك كله بتشكيل القوة العربية المشاركة.
وكان سموه خير إسناد فاعل للقوات المرابطة بتفقده لها مباشرة على الخطوط الأمامية متفقداً الرجال والعتاد ومؤمناً لهم ولذويهم الإسكان والمعالجة الطبية ولم تأخذه في ذلك لومة لائم ولم يضيره شنآن قوم أن يعدل، متخطياً بذلك حواجز السن كما أشار كُتّاب غربيون وقافزاً فوق عوائق التقليدية.
إن حكمة الاختيار الذي وافق أهله باختيار صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف لولاية العهد جاء مطابقاً للكفاءة والإخلاص والتفاني في العمل وهو أمر مشهود لسموه وكذلك تأتي ولاية ولاية العهد لصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان تعبير عن صدق توجه القيادة الحكيمة في إسناد الأمور وفق ما تواتر من منهج وثبت من عرف تمكيناً لجيل الأحفاد المفعم بالطاقة والمشرئب لقادم الأزمنة من الأزمان متلفعاً بالإيمان بالله وبالوطن وواثقاً في الخطو نحو الرفاه والنهضة.
لقد ظل المواطن السعودي ردحاً من الزمن يقلقه ما يُثار من أقوال حول مسألة انتقال العرش لجيل الأحفاد، لكن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بحكمته وحنكته السياسية قطع الطريق واستشرف المستقبل وحسم الأمر حتى أصبح مشهد المستقبل السياسي للدولة أكثر وضوحاً، انعكس هذا على الحركة الاقتصادية لاسيما وأن رأس المال جبان، وقبل هذا فقد انعكس على الارتياح الشعبي للمواطنين بكافة شرائحهم، بل وعلى الدول المجاورة والإقليمية والعربية والإسلامية والتي ترى أن المملكة العربية السعودية الشقيقة الكبرى وقلب العروبة والإسلام وأن استقرارها هو استقرار للمنطقة أجمع.
كانت المملكة ولا زالت تعطي للعالم دروساً لم يشهد لها التاريخ مثيلاً بمختلف الحضارات والأمم حول الترابط والتآخي والتواد بين أفراد الأسرة الحاكمة والتي أبهرت المراقبين وحطمت آمال كل الحاقدين والمتربصين والذين يراهنون على أن خراب هذه الدولة لا يكون إلا بصراع داخلي حول العرش، أولم يأنِ لهؤلاء أن يعوا بعد كل ما شاهدوه في مختلف وسائل الإعلام إبّان مراسم بيعة المُحمدَين من عظيم التآخي وعجيب الترابط وشديد الاحترام بين الأمراء أن بيت الحكم السعودي أصبح ناضجاً وحكيماً وعاقلاً بما فيه الكفاية؟.