منذ أن تسلم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان ـ يحفظه الله ـ مقاليد الحكم في المملكة وهو يعطي نماذج رائعة لمنهج سياسي متميز سواء فيما يخص القضايا الخارجية أو الداخلية للمملكة. هذا المنهج قائم على أدوات سياسية فعالة وقرارات حازمة وحاسمة مع إدراك ـ يستحق الإشادة ـ للنتائج والأبعاد التي تترتب على أي قرار يتخذ في هذا الشأن.
ولا شك أن هذا المنهج يعطي دروساً ثرية فيما ينبغي أن يكون عليه الاستقراء السياسي الخاص بالسياسة الداخلية والخارجية للمملكة، فهذا المنهج لا يمكن تفسيره وفق نظريات التحليل السياسي التقليدية، التي لا تأخذ في الاعتبار منهج الحكم في المملكة ومكانتها وتاريخها واعتبارات الثقة العالية التي تستحضرها في المواقف السياسية الهامة والأحداث الجليلة.
ولا يخفى على أحد أن الأوامر الملكية الأخيرة جاءت لترسخ منهجاً متميزاً نشأت عليه المملكة العربية السعودية منذ أمد بعيد، ولتقدم للعالم هذا النموذج الفريد من خلال أدوات سريعة وفعالة خاصة بها لا يشاركها في هذا المنهج أحد، ولا يمكن تحليلها من خلال تطبيق منهج سياسي أو قانوني آخر لتفسير ما يحصل في إدارة الحكم وقراراتها السياسية التي تعبر عنها بإرادة قائمة اعتبارات فيها من التميز والخصوصية الشيء الكثير. فهذا المنهج لا يخضع لأدوات التحليل المبنية على استقراءات مصلحية واعتبارات لا تدرك البعد الشرعي والنظامي والوطني والإنساني والأدبي الذي تقوم عليه إدارة الحكم في المملكة.
ولذلك فلا غرابة من الفشل الذي يطال في الغالب توقعات المحللين السياسيين سواء أكانوا من ذوي النية الحسنة أم خلاف ذلك من المراهنين على مواقف المملكة وسياستها، ذلك لأنهم ببساطة لا يدركون في تحليلاتهم هذه الأبعاد في المنهج السياسي السعودي. ولا غرابة كذلك بأن تكون هذه النتائج غير متوافقة مع استقراءاتهم التي تقوم على أداوت التحليل السياسي القاصرة عن استيعاب المنهج الذي يقوم عليه نظام الحكم في المملكة وفق مرجعياته الشاملة.
إن أول مرجعية كما تشير إليها الأوامر الملكية الأخيرة، هي أحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية والذي يُجسد جزءاً منها النظام الأساسي للحكم، إذ أن هذه الأوامر بدأت بهذه المرجعية الهامة وهو العمل بتعاليم الشريعة الإسلامية فيما تقضي به من وجوب الاعتصام بحبل الله والتعاون على هداه، والحرص على الأخذ بالأسباب الشرعية والنظامية، لتحقيق الوحدة واللحمة الوطنية والتآزر على الخير، انطلاقاً من المبادئ الشرعية التي استقر عليها نظام الحكم في المملكة العربية السعودية.
المرجعية الثانية هي مرجعية وطنية قائمة على اعتبارات مصلحة الوطن والمواطن إذ أشار أحد هذه الأوامر إلى أن الدافع لاتخاذ هذه القرارات هو رعاية لكيان الدولة ومستقبلها، وضماناً - بعون الله تعالى - لاستمرارها على الأسس التي قامت عليها لخدمة الدين ثم البلاد والعباد، وما فيه الخير لشعبها الوفي. ولذلك فإن هذه الاعتبارات استلزمت اختيار من يقوم بهذه المصلحة على أكمل وجه ممثلاً بشخص سمو ولي العهد يحفظه الله الأمير محمد بن نايف فهو ولي العهد المناسب لما تقتضيه اعتبارات مصلحة الوطن والمواطن.
وكما أكدت الأوامر الملكية الكريمة فإن اختيار ولياً لولي العهد قائم كذلك على اعتبار تقديم المصالح العليا للدولة على أي اعتبار آخر، ولذلك كان المعيار هو ما يتصف به صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز من قدرات كبيرة ـ كما ذكر الأمر الملكي الكريم ـ من أن هذه الصفات اتضحت للجميع من خلال كافة الأعمال والمهام التي أنيطت به، وتمكن - بتوفيق من الله - من أدائها على الوجه الأمثل، ولما يتمتع به سموه من صفات أهّلته لهذا المنصب، وأنه - بحول الله - قادر على النهوض بالمسؤوليات الجسيمة التي يتطلبها هذا المنصب، وبناء كذلك على ما يقتضيه تحقيق المقاصد الشرعية. والأمر الملكي الكريم لم يُغفل اعتباراً مهماً وهو انتقال السلطة وسلاسة تداولها على الوجه الشرعي وبمن تتوافر فيه الصفات المنصوص عليها في النظام الأساسي للحكم. فما أشير إليه في الأمر الملكي الكريم هو رسالة بأن انتقال السلطة وتداولها على الوجه الشرعي يكون لمن يحمل سمات وصفات الأهل للمنصب. ولذلك فهذا الاختيار بُني على اعتبارات يتميز بها منهج الحكم الصارم في المملكة الذي يضع نصب عينيه الجوانب الشرعية واعتبارات المصالح الوطنية والتي تعلو فوق كل اعتبار.
الأمر الملكي يحيل كذلك إلى مرجعية إنسانية وأدبية هامة تستمد مبادئها وتستلهم تعاليمها من مدرسة المؤسس الملك عبد العزيز يرحمه الله. وهي مدرسة قائمة على الإيثار وتقديم مصلحة الوطن والتلاحم بين أبناء الأسرة الحاكمة وإن اقتضت مصلحة الوطن التضحية بمنصب أو جاه وهو ما قام به سمو الأمير مقرن يحفظه الله من طلب الإعفاء من ولاية العهد. وقد أشار الأمر الملكي الكريم إلى تقدير خادم الحرمين يحفظه الله لسمو الأمير مقرن وما يتمتع به سموه من مكانة رفيعة لدى خادم الحرمين الشريفين وتقدير خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان كذلك لما أبداه سمو الأمير مقرن والاستجابة لرغبة سموه بإعفائه من ولاية العهد.
أيضاً ثمة مرجعية أخرى وهي مرجعية رمزية الهدف منها أن يصحو الوطن مع إشراقة شمس نهاره وقد ترتبت أموره وأخذت مصالحه بعين الاعتبار ليكمل مسيرته وليصحو مواطنوه على إشراقة جديدة من قرارات حكيمة تحمل في طياتها الخير كله. حفظ الله خادم الحرمين الشريفين وحفظ الله هذا الوطن.
د. فهد بن حمود العنزي - عضو مجلس الشورى