قيمة الزمن وجوهريته ليست خافيه على أحد، وقد شغل حيزاً ضخماً من تراث الفلاسفة والحكماء، ودرَّة التاج في الحديث عن الزمن وخطره ؛ قول الله تعالى {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}سورة العصر. وأمثالها في كتاب الله كثير، كما عدَّه مالك بن نبي رحمه الله مكوناً رئيساً في معادلة الحضارة، ولعلي أشير في هذا المدخل إلى وجهتي نظر «هرقليطس» و»اينشتاين» والأول فيلسوف يوناني سبق الفلاسفة اليونانيين المعروفين، حيث كان جوهر مساهمته يتمثل في مقولته الفلسفية (إن كل شيء في تغير إلا التغير فهو ثابت لا يتغير) ولم يقصد «هرقليطس» في مقولته المثيرة والبليغة هذه سوى التغير المستمر الذي لا يتوقف وهو القانون الوحيد الأزلي والأبدي الذي تخضع له جميع الموجودات وظواهر الوجود، وهذا التغير لا يحدث إلا (عبر الزمن).
أما (اينشتاين) فقد ذهب في نظريته (النسبية) إلى اعتبار (الزمن) متغيراً أساسياً مابين ثلاثة متغيرات هي: «الحركة والسرعة والزمن» والتي على ساسها فسَّر مختلف الظواهر الكونية.
ولقد ترجمة الدراسات المستقبلية قيمة الزمن باعتباره أحد أهم المتغيرات التي يجب مراعاتها واعتبارها والرقابة الشديدة لها، والزمن كما هو مسلم به ماض وحاضر ومستقبل....
الوقفة لأولى.. الزمن الحاضر
«موجود مفقود» وهذه معادلة صعب ة، فهو أصعب المتغيرات لأسباب:
- سرعة زواله، فهو مرحلة انتقال وعبور.
- أنه زمنك المتاح للفعل الآن، ولأنه موجود بين عدمين «الماضي والمستقبل».
- الحاضر جواهر كما قال ابن عطاء رحمه الله: (الأنفاس جواهر).
- أن الفعل فيه ليس له، بل للمستقبل القادم. فوجودك فيه حسي، ووجودك في المستقبل عملي، فقد زرع يوسف - عليه السلام - وأهل مصر سبع سنين، موجودون فيها، ويعملون في مستقبلهم.
- الحاضر الآن ؛هو ماضِ الغد، ومستقبل الأمس، فهو متغير حرج يحوي عموم متغير الزمن «ماض - حاضر - مستقبل».
وهنا فائدة.. المفرط في استشراف المستقبل من غير استثمار حقيقي للحاضر؛ قابعٌ فكراً في الماضي، لاهثٌ في الحاضر، منقطعٌ عن المستقبل. فلولا أن يوسف - عليه السلام - وأهل مصر لم يستبقوا بالزراعة، لكان هذا حالهم.
إذاً الزمن الحاضر هو المتغير المفصلي، منه ينتقل الماضي التليد بما حفظ، وإليه يقدم المستقبل المؤمل، فمن غير اهتمام بالزمن الحاضر لا تقدم ينتظر ولا مستقبل يرجى....
ما مضى فات والمؤمل غيبٌ
ولك الساعة التي أنت فيها
وأعظم شاهد على مفصلية الزمن الحاضر ؛ أنه أول الوجود الزمني للإنسان، وبالنسبة له تحتسب متغيرات الزمن «الماضي، والمستقبل». وكونه أول الوجود الزمني للإنسان، لأنه أول زمنٍ يوجد فيه وجوداً مكتملاً حين ولادته.
الوقفة الثانية.. الزمن الماضي..
وهو المستودع الرحب، المشاع لكل أحد، مستوعب الأفكار والتصورات والتجارب، وما حواه من أمجاد وأحداث، وما تم فيه من مخترعات وعلوم، ولك أن تتخيل سعة الرقعة الجغرافية أفقياً لتشمل بقاع المعمورة، ثم تصور تعاقب الأجيال والأمم قروناً متطاولة، لندرك عمق هذا المنجم وثرائه.
فالماضي يكون رافداً للمستقبل باستلهام الدروس والتجارب، وتلمس السنن والقوانين، واستنباط العبر.
والمعيب في التعاطي مع الماضي، هو العودة بالزمن إلى الوراء للعيش مع أحداثه والتغني والمعايشة الآنية لأمجاده ومحامده !، وهذا استنكاف للمستقبل، وتقزيم للماضي وعاثر في الحاضر، ومنقطع عن المستقبل.
والماضي للمستشرف ؛ كمستودع الأدوات والإمدادات، والمعمل الذي اكتملت في تجارب ودورات زمن، واختُبرت فيه الأفكار والتصورات إذاً هو ميدانه الرحب ومخزنه الثري للانطلاق نحو المستقبل متى ما استثمره حق الاستثمار.
والأمر الذي يستوقف الخبير المستقبلي، أنه سيكون مستودعاً للدراسات الاستشرافية يوماً، فيكون مختبراً تتزود منه بالدروس المستفادة والتجارب عن المستقبليات !!
الوقفة الثالثة.. زمن المستقبل.
لا بد أن نلحظ أنه زمنٌ لا يُنتظر بعمل فقط، بل لابد كي نعيش فيه بتميز ونجاح فنستحضر عملنا في الأمس واليوم لعيشنا غداً.
فهو إذا حاضرنا اليوم، فلا يمكن أن نقول إننا نعيش الآن مستقبلنا ونقيم فيه ! ولا أننا لا نعيش فيه لأنه زمنٌ متجدد متحرك ابتعاداً عنَّا، ونحن نستشرفه بالعمل في حاضر اليوم، وهكذا وبهذه النظرة نكون في طليعة المستقبل عيشاً واستشرافاً في آن معاً ؛ وهذا أكبر تحد يواجه الأمم وخبراء الاستشراف، فالمستشرف الخبير ابن وقته كما قال ابن القيم: (فالعارف ابن وقته، فإن أضاعه ضاعت عليه مصالحه).
فالزمن الزمن يجعل من الإنجاز المتواضع في الحاضر مشروعاً متكاملاً في المستقبل لأن المستقبليات تصنع الفوارق الكبرى وتغير المعادلات عبر استثمار العمل الحاضر باعتبار أنك تعمل في المستقبل، ولذلك قال بعضهم: «ليس هنالك مستقبل ينتظره لتعيش فيه، فما ثمَّ إلا حاضرٌ تعمل فيه لحاضر تعيش فيه».
- باحث في الدراسات الإسلامية المعاصرة