مِنَ الناس مَنْ إذا رأى على أخيه عيبًا سخر منه، فهمزه ولمزه ونبزه، فآذى جلساءه بلفظه السيئ، وبإشارته الساخرة، وبنداء أخيه بما يكرهه، شاتمًا وشامتًا، ويزيد سوءً إذا كان يفعل ذلك بقصد إضحاك غيره، ومن هذه حاله فقد أخطأ بحقِّ نفسه، حيث رضي لها خلقًا سيئًا تتصف به، وكذلك أخطأ بحقِّ غيره بسخريته منه، وتعييره وشماتته، وليس ذلك من خلق المؤمن، بل من أخلاق أهل السوء الذين آثروا لأنفسهم الضعة والدنيَّة، فالإسلام حرَّم السخرية؛ لأنها خلقٌ وضيعٌ، وفيها منافاةٌ لمكارم الأخلاق، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وإذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ). وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أن يَكُونُوا خيرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أن يَكُنَّ خيرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسم الْفُسُوقُ بَعْدَ الاِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
والسخرية بالناس ونبزهم من صفات أهل الجاهلية، قال ابن كثير -رحمه الله- عند قوله تعالى: {بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} أي: بئس الصفة والاسم الفسوق، وهو: التنابز بالألقاب، كما كان أهل الجاهلية يتناعتون، بعدما دخلتم في الإسلام وعقلتموه.
وقال الإمام السعدي -رحمه الله- عند هذه الآية: (من حقوق المؤمنين، بعضهم على بعض، إلا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ بكل كلام، وقول، وفعل دال على تحقير الأخ المسلم، فإن ذلك حرام، لا يجوز، وهو دالٌّ على إعجاب الساخر بنفسه، وعسى أن يكون المسخور به خيرًا من الساخر، كما هو الغالب والواقع، فإن السخرية لا تقع إلا من قلبٍ ممتلئ من مساوئ الأخلاق، متحلٍّ بكلِّ خلقٍ ذميم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: بحسب امرئ من الشر، أن يحقر أخاه المسلم). ا.هـ.
فالمؤمن لا يسخر من أخيه؛ لأنه فقيرٌ، أو مبتلى بعاهةٍ في بدنه، أو متلبِّسٍ بذنب؛ فلعلَّه أخلص لله منه، وأنقى قلبًا، وأتقى وأبرُّ، وليحذر الساخر من أن يحصل له مثلما حصل لمن سخر به، قال عمرو بن شرحبيل -رحمه الله-: (لو رأيت رجلاً يرضع عنزًا فضحكت منه، لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع).
قال إبراهيم النخعي -رحمه الله-: (إنِّي لأرى الشيء أكرهه، فما يمنعني أن أتكلَّم فيه إلا مخافة أن أُبتلى بمثله).
وقال ابن سيرين -رحمه الله-: (عيَّرت رجلاً، وقلت: يا مفلس! فأفلست بعد أربعين سنة!).
قال الشاعر:
المرء أن كان عاقلاً ورعًا
أشغله عن عيوبه ورعه
كما السقيم المريض يشغله
عن وجع الناس كلهم وجعه
وقال الشاعر:
لا تنطقن بما كرهت فربما
عبث اللسان بحادثٍ فيكون
ومن السخرية ما يكون في مواقع التواصل الاجتماعي من حساباتٍ ساخرةٍ بفلانٍ، أو بأقوام على التويتر وغيره، التي لها متابعون كثر، يدير كثير منهم تغريداتها نشرًا لها بما يسمى رتويتًا، فليجتنب المؤمن هذه الحسابات؛ لما فيها من سخريةٍ محرمةٍ، وغيبةٍ مستطالَةٍ، وإفكٍ وبهتان.
ومن مساوئ السخرية أنَّها منبعٌ من منابع العداوات، وسبيلٌ إلى التباغض والتشاحن، وخلقٌ مذمومٌ من أخلاق أهل الجاهليَّة، وطريقٌ إلى تفكك المجتمع؛ لمحاولة المسخور به الانتقام لنفسه ممن سخر به، إضافة إلى أن السخرية إثمٌ يحمله صاحبه، يستحق معه العقوبة.
إضاءة: من كان لابسًا ثوب السخرية فليخلعه، فإنه ثوبٌ يشين، لا يلبسه كرام الناس، ولا يتزيَّا به شرفاؤهم.
- خطيب جامع بلدة الداخلة (سدير)