موسكو - سعيد طانيوس:
حتى الرئيس الأميركي باراك أوباما، لم يتفاجأ من رفع روسيا الحظر عن بيع بطاريات صواريخ «أس-300» إلى إيران حسبما أعلن شخصياً يوم الجمعة الماضي، فالبيت الأبيض يعلم أنه كلما فترت علاقاته وعلاقات الغرب عامة مع موسكو، كلما اندفعت الأخيرة للقيام بكل ما يغيظه ليس بقصد الانتقام، إنما لتحسين شروط التفاوض معه وإفهامه أنه لا غنى عن التعاون معها.. ومع ذلك دعا أوباما أوروبا لأن تبقي العقوبات الراهنة المفروضة على روسيا إلى أن تنفذ اتفاقاً يُعرف باتفاقية مينسك لوقف القتال في شرق أوكرانيا.
وقال أوباما في شأن العقوبات على روسيا: «على الأقل يتعين علينا أن نبقي على مستويات العقوبات القائمة إلى أن نرى أنهم نفذوا الخطوات المطلوبة منهم بموجب الاتفاق» بخصوص أوكرانيا.. وحول صفقة صواريخ «أس-300» التي عادت روسيا ووافقت على تسليمها لإيران بعد تجميدها لسنوات، أوضح أوباما خلال مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينزي، في البيت الأبيض: «لست متفاجئاً، نظراً لتدهور العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة، والضغوط التي يتعرض لها اقتصادها (روسيا)، علاوة على أن الأمر يتعلق بصفقة كبيرة».
وكشف أوباما لأول مرة عن أن «عملية البيع كانت ستتم في 2009، عندما التقيت بوتين وكان حينها رئيس الوزراء.. عندها أوقف العملية، أو علق الصفقة بناء على طلبنا»، مضيفاً «وبصراحة، أنا مندهش من أن التعليق دام طويلاً، علماً أن أي عقوبات لا تمنعهم من بيع هذه الأسلحة الدفاعية».
وبدا كأن الرئيس الأمريكي يتفهم حصول إيران على صواريخ «أس 300» الروسية.. عندما قال إنه مندهش من أن موسكو انتظرت طويلاً لإبرام صفقة لبيع منظومة «أس 300» إلى إيران في ضوء التوترات بين روسيا والولايات المتحدة.
وهذا ما يؤكد أن العلاقات الروسية - الإيرانية، بما فيها العلاقات العسكرية، ليست علاقات متينة ولا مبدئية ولا قائمة على أسس أيديولوجية، بل هي مرتبطة بتطورات الأحداث الإقليمية والعالمية، وتمر بفترات صعود وهبوط تبعاً لمستوى العلاقات الدولية بين روسيا والغرب من جهة، وبين موسكو والخليج العربي من جهة أخرى.
فتعليقاً على الدعوة التي أطلقها وزير الدفاع الإيراني خلال مؤتمر موسكو الرابع للأمن الدولي لإقامة حلف عسكري إيراني، صيني، روسي أكد نائب وزير الدفاع الروسي أناتولي أنطونوف, على أن الرد على اقتراح الوزير الإيراني ليس من اختصاصه بل من صلاحيات وزير الدفاع الروسي، لكن أنطونوف شدد مع ذلك على أن موسكو لا تجد ضرورة في تشكيل مركز ثقل مقابل لحلف شمال الأطلسي، وقال: «لا أعتبر أنه يجب اليوم إقامة أي تحالفات أو اتحادات لإيقاف الناتو».. وأضاف: «نحن لا نصادق أي طرف بغرض معاداة آخر، ولا ننوي خوض حرب».
فعنصر «الضرورة» و»سياسة المحاور»، هو الذي يحكم علاقات موسكو بطهران وليس «الشراكة الإستراتيجية» كما يروّج البعض، إذ إن العلاقات العسكرية بين البلدين، شهدت في الفترة الممتدة بين العامين 1989 و1991، صعوداً بين موسكو السوفياتية وطهران الإسلامية بالتوقيع على أربع اتفاقيات كبيرة بأكثر من خمسة مليارات دولار.. وتضمّنت اتفاقية للتعاون العسكري بينهما في العام 1989 بيع إيران طائرات ومروحيات عسكرية ومنظومات مدفعية صاروخية مضادة للطائرات من طراز «إس 200» وغواصات ديزيل ودبابات.
غير أن خروج روسيا من عباءة الاتحاد السوفياتي والتحولات التي تلت ذلك في تسعينيات القرن الماضي داخل روسيا، جعلت موسكو تستجيب للضغوط الأميركية والإسرائيلية للابتعاد عن طهران بدرجة ما.. ولعب بروتوكول «غور - تشيرنوميردين» عام 1995 بين نائب الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء الروسي آنذاك، دوراً أساسياً في هذا الابتعاد الروسي، حيث نصّ على وقف التعاون العسكري المستقبلي بين روسيا وإيران.. وبذلك خسرت موسكو آنذاك، بحسب التقديرات الروسية، نحو أربعة أو خمسة مليارات دولار كانت تأمل بتعويضها من الانفتاح إلى أميركا والاقتصادات الغربية، إلا أن ذلك لم يحصل وعانت روسيا حينذاك من ضائقة مالية واقتصادية كادت توصل الشعب الروسي إلى حافة الجوع.. وعندما انسحبت روسيا من البروتوكول المذكور بعد هجوم حلف «الناتو» على يوغوسلافيا، بدأت مرحلة جديدة بين موسكو وطهران شملت عملياً الفترة 2000 - 2007، أي فترة صعود نجم الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين.. حيث احتلت إيران في هذه الفترة المرتبة الثالثة بين المستوردين الكبار للأسلحة الروسية.. ففي تشرين الأول - أكتوبر 2001، وخلال زيارة وزير الدفاع الإيراني السابق علي شمخاني لموسكو، جرى التوقيع على اتفاق حكومي مع روسيا بشأن التعاون العسكري. وبمقتضى هذا الاتفاق زوّدت روسيا إيران بمروحيات للنقل العسكري متعدّدة الأغراض.. وحصلت القوات الجوية الإيرانية في ما بعد على ست مقاتلات «سوخوي 25»، وثلاث مروحيات «مي17».. ووقّعت روسيا اتفاقاً مع إيران في 2005 لبيع 29 منظومة دفاع جوي من طراز «تور-أم 1» بقيمة إجمالية بلغت 1.4 مليار دولار، لحماية منشآت الطاقة النووية في بوشهر وناتانز.. ووافقت روسيا عام 2007 على تزويد إيران بخمسة أنظمة دفاع جوي مضادة للطائرات متوسطة المدى من نوع «إس -300-، بقيمة تزيد على 800 مليون دولار.
إلا أن العلاقات العسكرية بين البلدين أُصيبت مجدداً بالتوتر والفتور في العام 2010، بسبب قرار دميتري ميدفيديف، رئيس روسيا آنذاك، بحظر توريد صواريخ «إس - 300» إلى إيران، «انسجاماً» مع توجيهات بوتين الشخصية ونزولاً عند رغبة «الشركاء» الأميركيين وإسرائيل, حيث اتخذت قرارات مجلس الأمن الدولي حجة لتعليق تنفيذ هذه الصفقة، علماً أن هذه القرارات لا تطال بأي شكل من الأشكال هذا النوع من الأسلحة الدفاعية أبداً.. ولهذه الأسباب تقدّمت طهران بشكوى ضد شركة «روس أبورون إكسبورت» الحكومية الروسية لتصدير الأسلحة إلى محكمة جنيف في سويسرا، مطالبة بتعويضات تقدّر بـ 4 مليارات دولار على اعتبار أن روسيا أخلّت بشروط عقد هذه الصفقة دون أية مسوغات قانونية أو قرارات دولية.. ولحلّ هذه المشكلة، اقترحت روسيا بيع منظومة صواريخ الدفاع الجوي «تور- إم 1 آي» إلى طهران، ولكن طهران رفضت هذا العرض لأنها كانت تملك مثيلاً لها ومن روسيا بالذات.. وفي كانون الثاني - يناير 2015، وقّع وزير الدفاع الروسي في طهران اتفاقاً للتعاون العسكري مع إيران.. وجرى الحديث عن استبدال «إس - 300» الفعّالة بصواريخ الدفاع الجوي «أنتي - 2500» الأقل مدى وفعالية، ولكن طهران رفضت هذا العرض أيضاً.في الحقيقة ليست هناك مشكلة تقنية راهناً في ما يتعلّق بتسليم صواريخ «إس - 300»، بعد رفع روسيا الحظر عن التسليم، لأن الوحدات الخمس من هذه الصواريخ التي اتفقت عليها إيران في 2007، يمكن سحبها من عتاد الجيش الروسي الذي بدأ يتخلص من هذه المنظومات ويستبدلها بمنظومات «إس - 400» الأحدث والأبعد مدى والأكثر مقاومة لعمليات التشويش.. ولذلك يعتقد الخبراء بأن طهران سوف تتسلم «إس - 300» بنهاية العام الجاري.. كما أن البعض الآخر لا يستبعد رغبة إيران في الحصول على صواريخ الدفاع الجوي الروسية الأحدث «إس - 400».
لا شك في أن مرسوم بوتين برفع الحظر عن «إس - 300» لإيران يُعدّ قراراً سياسياً، في المقام الأول، يهدف إلى تعزيز العلاقات الروسية الإيرانية في ظل الأوضاع المتوترة في منطقة الشرق الأوسط، ولكنه يمثّل أيضاً سباقاً لتقاسم «الكعكة الإيرانية» عسكرياً واقتصادياً في حال رفع العقوبات الأممية عن إيران بعد التوصل إلى اتفاق دولي حول ملفها النووي في حزيران المقبل.. ولكن «الامتناع» الروسي في مجلس الأمن الدولي عن اتخاد حق النقض «الفيتو» بشأن مشروع القرار الخليجي المتعلق باليمن قد «عكّر» شعور طهران بـ «السعادة» لرفع الحظر.. وهذا الغضب تجلّى في تعليقات كثير من المراقبين السياسيين الإيرانيين على الموقف الروسي، خصوصاً أن الامتناع الروسي جاء بعد ساعات قليلة من قرار إلغاء الحظر، وعشية زيارة وزير الدفاع الإيراني إلى العاصمة الروسية.. فتصريحات بعض المسؤولين الروس قبل التصويت على مشروع القرار 2216، أوحت لطهران بأن «الفيتو» الروسي بات جاهزاً. غير أن اللقاء بين وزير دفاع المملكة الأمير محمد بن سلمان والسفير الروسي في الرياض، يبدو وكأنه غيّر موقف روسيا.. فعبر رفع «الحظر» و»الامتناع» عن التصويت تبدو موسكو وكأنها توقفت لبرهة في منتصف الطريق بين إيران والمملكة العربية السعودية.. ولا يُخفى أن الكرملين، ومنذ سنوات، يراهن على فتح أسواق الخليج للأسلحة أمام صادراته وعلى جلب استثمارات خليجية كبيرة إلى روسيا، ولكن هذه المراهنات بقيت دون جدوى حتى الآن ولم تأت ثمارها بعد.. ولا يخفى أن الكرملين يراهن حالياً على دور المملكة في رفع أسعار النفط العالمية، ولا يرغب في مزيد من توتر العلاقات مع الرياض بعدما جرى بينهما بسبب سوريا.
تبدو العلاقات الروسية - العربية في الوقت الراهن شبيهة ببهلوانيات الرقص على الجليد ،إلا أنه جليد ساخن جداً بفعل الأزمات المشتعلة في المنطقة, فمن ينزلق أكثر فوق هذا الجليد يبتعد أكثر عن شريكه.. حتى ولو كانا يؤديان رقصة مشتركة واحدة على أنغام وإيقاعات ملتهبة.
المفاوضات النووية مع طهران وما ستؤول إليه، وأزمة اليمن والحروب المشتعلة في سوريا والعراق وليبيا، بالإضافة إلى الأوضاع في مصر وفلسطين، كلها تضع المنطقة على صفيح ساخن وعلى عتبة تحولات كبرى قد تغيّر فعلاً وجه الشرق الأوسط، لذا على أُولي الألباب من العرب ألا يدفعوا روسيا إلى مزيد من التقارب مع طهران، وأن يلتقطوا الإشارات التي صدرت من موسكو عند التصويت على القرار الدولي الأخير بشأن اليمن، وأن يبادروا على الأقل لتعزيز وتقوية شعرة العلاقات التي ما زالت تربط الدول العربية الفاعلة مع موسكو بدل قطعها نهائياً، فالحكمة والتعقل تقتضيان ذلك، وإن كانت العواطف وردود الفعل الانفعالية تتجه عكس ذلك.