د. عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
ارتفعت قيمة الدولار إلى أعلى مستوى له خلال 11 عاماً ونصف العام أمام سلة من العملات من جراء الطلب الدولي عليه مقابل تراجع الطلب على منافسيه في الأسواق، سواء اليورو أو الإسترليني أو الين، متزامنا مع انخفاض قيمة الذهب بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة.
الدولار لا يزداد قوة بفعل الاقتصاد الأمريكي فقط بل بفعل السياسات المالية التي تتخذها البلدان الأخرى، لكن لا يمكن أن نتجاهل عوامل الطرد الموجودة في الاقتصادات الناشئة.
أي أن ارتفاع قيمة الدولار ليس مسؤولية الولايات المتحدة بمفردها، بل أيضاً السلوك الاقتصادي العالمي، وخصوصاً فيما يتعلق بسلوك الدول النامية. والاقتصادات الناشئة مسؤولة عن ارتفاع الدولار وما ينجم عنه من مشاكل اقتصادية. وسبق أن صرح وزير الخزانة الأمريكي جون كونولي عام 1971 خلال اجتماع مجموعة العشرة في روما قائلاً إن الدولار عملتنا، لكنه مشكلتنا.
ارتفع اليورو مقابل الدولار، وذروته في عام 2008 بـ1.6 دولار إلى 1.0921 دولار في 24 مارس 2015، في حين ارتفع الدولار بنسبة 25 في المائة خلال العام الماضي فقط، وربما فسح المجال لفترة من التداول الأكثر تقلباً من النوع الذي يثير المتاعب في وجه المساهمين، خاصة أولئك الذين يراهنون على مزيد من المكاسب للعملة الأمريكية.
اليورو آخذ في التراجع أمام الدولار وسط توقعات بأن ينخفض لأدنى مستوى له أمام نظيره الأمريكي في 13 عاماً، ومع هذا فإن انخفاض قيمة اليورو يمثل نبأ جيداً بالنسبة لاقتصادات 19 دولة عضواً في منطقة العملة الأوروبية الموحدة، ويساهم في زيادة صادراتهم إلى الولايات المتحدة، وبشكل خاص يسهم في سرعة توقيع اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة.
القوة الرئيسة الدافعة للاقتصاد الأمريكي ليست في التصدير وإنما في الاستهلاك الداخلي والإنفاق الاستهلاكي البالغ 70 في المائة من الاقتصاد الأمريكي الذي يستفيد من ارتفاع العملة الأمريكية، بينما يجعل كل من له نشاط اقتصادي في الولايات المتحدة يفكر في العواقب، في حين تستفيد الصناعات المحلية التي تعتمد على استيراد المواد الخام وتسويق أغلب منتجاتها محلياً.
بينما الصناعات القائمة على الصادرات ستعاني تكلفة الصادرات مقارنة بنظيرتها من منطقة اليورو واليابان والصين وبريطانيا، وهذا يعني ضرورة العمل على خفض التكاليف، وغالباً ما يتم عن طريق خفض عدد العاملين بعد تراجع معدل البطالة من 5.7 في المائة إلى 5.5 في المائة بعد ضخ 295 ألف وظيفة جديدة في فبراير الماضي؛ ما يقود إلى رفع نسب البطالة مرة أخرى.
بشأن ما يثيره من ارتفاع الدولار في الأوساط الاقتصادية داخل الولايات المتحدة هناك تياران داخل مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي. فهناك تيار قوي يطالب بإبقاء أسعار الفائدة منخفضة حتى لا يضر بالاقتصاد الأمريكي، بينما هناك تيار يؤيد رفع الفائدة لجذب مزيد من الاستثمارات لرفع معدلات التوظيف، وشعارهم «فليذهب الآخرون للجحيم»؛ حتى يحد من مواصلة ارتفاع الدولار.
نجحت الإدارة الأمريكية في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر إلى داخل الولايات المتحدة كأولوية في الأعوام الأخيرة، لكنه عانى في الفترة الأخيرة قصوراً وجهوداً فاترة. رغم أن الولايات المتحدة تملك أكبر رصيد من الاستثمار الأجنبي المباشر بمقدار يبلغ ثلاثة تريليونات دولار، حتى تمكنت الولايات المتحدة من أن تصبح في القمة الأولى عام 2013، وتساوي أكثر من سبعة تريليونات دولار في 28 ولاية. لكن حصة الولايات المتحدة من الإجمالي العالمي انخفضت أكثر من الثلث في عام 2000 إلى أقل من الخمس في عام 2013؛ ما أصاب الولايات المتحدة بقلق من أن الاستثمار الأجنبي المباشر في الولايات المتحدة قد تراجع بنسبة 60 في المائة عام 2014. احتياطيات العملات الأجنبية في الصين تبلغ 3.9 تريليونات دولار، التي تم تدوير أجزاء منها في سندات الخزانة الأمريكية منذ أكثر من عقد؛ ما ساعد على إبقاء أسعار الفائدة منخفضة ودعم النمو الاقتصادي، التي ارتفعت 21 ضعفاً على مدى 13 عاماً لتصل إلى 1.27 تريليون دولار بنهاية عام 2013. هذا التوجه كان مدعوماً بضرورة حتمية لإعادة تدوير فوائض الحساب الجاري الضخمة في الصين والمقومة بالدولار بعيداً عن سندات الخزانة الأمريكية تماشياً مع خطة مكونة من عشر نقاط للإصلاح المالي، تتواءم مع التغيرات الهيكلية في صناعة المال والأعمال والاستثمار العالمية. هذه الفوائض آخذة في الضيق بشدة من نسبة تعادل 10.3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في ذروتها في عام 2007 إلى 2 في المائة في عام 2013.
رغم ذلك تبرز قوة الدولار لغزاً جديداً يرتبط بالتجارة والاستثمار. ففي حين أن الدولار القوي يزيد من تكاليف الاستثمارات الأولية إلا أنه يعتبر نتاج اقتصاد أمريكي سليم، وخصوصاً بعد نقل الدخل من منتجي النفط إلى مستهلكيه، ويدعم الاستهلاك في الولايات المتحدة بشكل فاعل أكثر بكثير من سياسات الاحتياطي الفيدرالي.
تلقي مخاوف الانكماش بظلالها على آفاق أسعار الفائدة، رغم أن البعض يرى أن الانكماش هو أفضل من التضخم الذي من شأنه زيادة إضعاف القوة الشرائية، لكن انخفاض التضخم وارتفاع الدولار يشيران إلى تاريخ أبعد في رفع نسبة الفائدة بعد فترة طويلة من المال السهل الذي تسبب في رفع الأصول.
عندما تكون أسعار الفائدة منخفضة يصبح للمضاعفات الأعلى على الأسهم ما يبررها، حينها بدت عوائد الأسهم أكثر جاذبية، حتى أصبحت تداولات مؤشر ستاندر آند بورز 500 الآن قريبة من 28 مرة ضعف متوسط الأرباح للسنوات العشر الماضية (نسبة سعر السهم إلى الأرباح المعدلة دورياً)، وهذا أعلى مستوى للمؤشر منذ 13 عاماً، لكنه أدنى من مستوى عام 2000.
ارتفاع أسعار الفائدة هي مكافأة للمدخرين، وتعمل على الحد من المجازفة المفرطة، لكن هناك جانباً سلبياً من رفع أسعار الفائدة ولاسيما على أسواق الأسهم والسندات التي أصبحت تعتمد بشكل مفرط على أسعار الفائدة المنخفضة. فرفع أسعار الفائدة ربما ينذر بعمليات بيع مكثفة، وبدأت الأسواق الناشئة خفض احتياطياتها من النقد الأجنبي، بينما كانت لأكثر من عقد تعمل على زيادتها.
ومع ذلك تحرص إدارة أوباما على توقيع اتفاقيتين تجاريتين عبر المحيطين الهادي والأطلسي لتقوية تنافسية الولايات المتحدة بعد فشل الولايات المتحدة في توقيع العديد من الاتفاقيات في الفترة الماضية؛ ما ألحق الضرر بالوضع التنافسي للولايات المتحدة.