إن الأموال القذرة موضوع محاط بالتعتيم، محفوف بالأمور الملتبسة والممارسات الغامضة، تتجنب المؤسسات المالية العالمية الخوض فيه، ولا يكاد المسؤولون يقتربون منه، ومجموع هذه الأموال حسب تقدير بعض الإحصاءات يتراوح بين 500 بليون دولار وتريليون دولار كل عام، ناتجة عن عمليات إجرامية ذات أبعاد دولية، بالإضافة إلى مبالغ أخرى غير معروفة تقدر بمئات البلايين من الدولارات التي تهرب بطرق غير مشروعة، تعبر الحدود وتوضع في حسابات معينة في البنوك الخاصة.
وفي المدى القصير، يقدر ما يذهب من هذه الأموال إلى الولايات المتحدة بالنصف، ويذهب النصف الآخر إلى أوروبا، هذا بينما لا يلبث جزء من نصف الأموال المودعة في أوروبا أن ينتهي إلى حسابات مودعة بالدولار.
واليوم يصل مجموع ما تراكم عبر السنين من أموال الجريمة إلى تريليونات عدة من الدولارات بالعملة الصعبة، وربما تصل رؤوس الأموال الهاربة من الضرائب إلى رقم مقارب.
هكذا تشن الدول الغربية حربًا على الجريمة بيد، وتستقبل بالترحاب الأموال القذرة باليد الأخرى في نوع من السلوكيات الذاتية التناقض.
إن علاج مشكلة الأموال القذرة لا يفتقر إلى الحلول بقدر ما يفتقر إلى الإرادة، حيث تتركب الأموال القذرة من مكونين تختلف أصول كل منهما عن الآخر، ومن ثم يختلفان في درجة خروجهما على الشرعية، هنالك:
أولاً: الأموال التي لها أصول إجرامية خطيرة، يحددها كثير من البلاد بتجارة المخدرات، وتضيف الولايات المتحدة وعدد من البلاد الأخرى إلى ذلك تزييف النقد وأعمال الجاسوسية والتجارة غير المشروعة في السلاح والابتزاز والاختطاف ودفن النفايات السامة والمواد النووية وتجارة الرقيق والتهريب.
وغيرها، كثير مما يشار إليه في معرض الحديث عن غسل الأموال بتمريرها في قنوات النظم المالية يضاف إلى ذلك أن تلقي أموال معروف أن مصدرها غير مشروع يعتبر أمرًا خارجًا عن القانون في البلاد التي لديها قوانين تجرِّم عمليات غسل الأموال.
ثانياً: هناك الأموال التي مصدرها الفساد والتهرب الضريبي وتهريب العملة والتي تعتبر حين تترك الدولة الوطن رؤوس أموال هاربة.
إن تكوين هذه الثروات المالية يعتبر أمرًا غير شرعي في البلاد التي تأتي منها، ومع ذلك فإن هذه الأموال غالبا، إن لم يكن دائماً، يعتبر تلقيها أمرًا مشروعًا في أي بلاد أخرى.
يقول ريمونر بيكر: إن 99.99% من الأموال ذات الأصول الإجرامية التي تفد لتغسل في ألمانيا يعتقد أنها تمر بلا مشكلات مجتازة نقاط تفتيش النظام المصرفي، لتودع في حسابات آمنة.
وفي واشنطن يقول المسؤولون إن 99.9% من الأموال التي تأتي للغسل تودع في حسابات آمنة في البنوك الأمريكية.
والنتيجة النهائية المستخلصة من ذلك هو أن المحاولات التي تبذل لتجريم عمليات غسل الأموال ما هي إلا محاولات فاشلة، ويعرف المسئولون هذه الحقيقة ولكنهم يدعون أنهم غير قادرين على معرفة الأسباب.
وعلى الرغم من حقيقة أنه على مدى أكثر من خمسة وعشرين عاما، لم يتم تحجيم أو تقليص عمليات الغسل على أي نحو محسوس، فإن المسؤولين المكلفين بتنفيذ القوانين يعلنون بفخر أن تكاليف الغسل قد ارتفعت، فبينما كان المجرمون يدفعون، كعمولات 5 أو 6% فقط منذ بضع سنوات، فإنهم يدفعون الآن حوالي20%.
وغير خافٍ أن ملوك المخدرات وزعماءهم الكبار يواجهون مهمات أكثر صعوبة ومشقة فدخولهم تعد بمئات الملايين من الدولارات من مختلف الفئات، يقاس وزنها بالأطنان ويحتل حجمها فراغًا يزيد على البضاعة نفسها.
إذ تحمل (البغال) حقائب السفر وحقائب اليد وفيها مئات الآلاف من الدولارات لإيداعها في بنوك دول الكاريبي، ولكن المخاطرة في هذه العملية كبيرة والأسلوب الأكثر استخداما هو إخفاء رزم الدولارات في الثلاجات أو قطع الأثاث الضخمة أو الآلات أو المنتجات الصناعية أو النعوش أو حتى داخل أجساد الموتى لتشحن إلى المكسيك وبنما وكولومبيا أو إلى أية دولة أخرى متسيبة في هذه الأمور، حيث تلقى أي إيداعات دولارية كبيرة في البنوك ترحيبًا حماسياً.
إن قياس حجم الأموال الهاربة أمر ليس سهلا، بسبب تداخل مركبيه، القانوني وغير القانوني ولا يبذل صانعو الإحصاءات المالية الدولية أي جهود للتمييز من المركبين ومن ثم يظل الجزء غير القانوني شبه غائب تمامًا في هذه البيانات.
فتقرير الأمم المتحدة يقدر حجم التجارة العالمية للمخدرات وحدها بمبلغ 400 بليون دولار كل عام أي 8% من مجمع حجم التجارة العالمية.
وفي باريس تقوم غرفة العمليات المالية، وهي هيئة مهمتها تنسيق الجهود لمناهضة غسل الأموال، بدمج التقديرات المختلفة المقدمة من أعضائها، لتصل إلى أن رقم500 بليون دولار سنويا، هو الرقم الغالب تداوله.
إن ثنائية غسل الأموال الإجرامية وتهريب الأموال غير الشرعية، تشكل الثغرة الكبرى في نظام السوق الحرة حيث تزدهر تجارة المخدرات وغيرها من الجرائم العالمية، لأن عمليات غسل الأموال سهلة، بل لا تستطيع أية دولة أن تقطع أحد ذراعي تلك الثنائية، حيث تحتضن الأخرى في الوقت نفسه.
ختامًا أقول:
إن المطلوب تغيير جذري، يكون نقيضًا لا لبس فيه للأوضاع الراهنة، فبدلا من تعزيز حركة الأموال المشبوهة بين الدول، علينا أن نعمل العكس تماما، علينا أن نوضح أن هذه العملية من مخلفات عالم مقسم مفتت ينتهي، وأنها لم تعد مقبولة في أيامنا هذه!
- عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
zrommany3@gmail.com