ما أصعب الفراق، وليس أشد ألماً من أن تفقد عزيزاً غالياً على النفس محبوباً إليها، فقبل أربع سنوات وأربعة أشهر تقريباً، فقدت والدي رحمه الله رحمة واسعة، وها أنا في عصر يوم الأحد 16-6-1436هـ أتلقى خبراً كدّر خاطري وأقضّ مضجعي، حيث إنني للتو خلدت للراحة بعد ساعات العمل الطويلة؛ خبر وفاة العم الشيخ عبد العزيز رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، حيث خرجت روحه الطاهرة في منزله بين زوجه وأبنائه وبناته دون أن يشعر به من حوله، حيث كان لا يشتكي ألماً ولا يُراجع طبيباً ولا يتناول علاجاً، ولكنها - إن شاء الله - حسن الخاتمة تلقاها من رب السموات والأرض، دون أن يتعب أو يُتعب، دون آلام ومشقة، دون مرارة الأدوية ووخزات الإبر، فلعلها - بإذن الله - علامة من علامات الرحمة والمغفرة وحسن الخاتمة، وأملي ورجائي أن ينطبق عليه ما ورد في حديث قبض الأرواح المشهور عن البراء رضي الله عنه أن ملك الموت يأتي عند رأس الميت قرب موته ثم يخاطب رُوحَه فيقول: (اخرجي أيتها الروحُ الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي إلى رَوحٍ وريحان، وربٍّ غيرِ غضبان، فتخرج رُوحه كما تسيل القطرة من فم السقاء).. وفي رواية: (تُسلّ روحه كما تسلّ الشعرة من العجين).
ومنذ وقت خبر وفاته - رحمه الله - وأنا أسترجع ذكريات ومواقف جميلة عبر عقود مضت معه، ومع كثرة انشغالي بعملي حاولت أن أكتب شيئاً في حينه، إلا أنني لم أتمكن بسبب كثرة ما في خاطري عن هذا العم الشيخ الجليل في علمه وخلقه وسمته، والذي أنظر إليه وكأنه أبٌ لا عم، لما له من الفضل الكبير علينا وعلى كل من عاشره أو درّسه أو عمل أو تعامل معه.
لقد تعلمت منه الشيء الكثير كان مدرسة بل جامعة، فمنذ صغرنا ونحن لا ننقطع عنه حتى بعد أن أشغلتنا أمور الحياة، كان في كل لقاء نلتقي به - رحمه الله - نكتسب درساً مباشراً أو غير مباشر، مجلسه لا يُمل إما فتوى أو موعظة أو قصة أو عبرة أو حكمة أو نصح أو دعابة، له سمت عجيب وتواضع جم وسماحة ولين جانب، حنون على الصغير، يحترم ويقدر الكبير، يبذل بسخاء فتعطي يمينه ما لا تعلم شماله، كان كريماً مبادراً للخير، ناصحاً للآخرين، مرهف الإحساس دمعته قريبة وبالأخص فيما يتصل بعبادة ربه والخشية منه، ومن المواقف في ذلك عندما كنا صغاراً، وكان والدي - رحمه الله - يقرأ عقب صلاة العصر في رمضان بعضاً من الأحاديث في مسجد سوق الجريد بمحافظة حريملاء، وفي آخر يوم من رمضان كان الحديث عن وداع الشهر فإذا به - رحمة الله عليه - من بين المصلين يجهش بالبكاء راجياً من ربه أن يكون ممن عُتقت رقابهم من النار، وكنا - ببراءة الأطفال - نقول لماذا العم يبكي، وغداً عيد.. بمعنى: لماذا لا يفرح مثلما نحن فرحون، إنها الخشية وطلب الرحمة والمغفرة.
كان يمارس - متطوعاً - عملَ عاقد أنكحة يقصد بذلك وجه الله في التيسير على من يحتاج من أقاربه أو معارفه أو أصدقائه، وكنا نمازحه عندما ينهي عقد القران قائلين للعريس عقبال الزوجة الثانية، فيرد سريعاً وبعفوية: أنا لا أعقد إلا على الأولى، ولا يقول ذلك مفتياً بعدم جواز التعدد ولكن رأفة بمشاعر من حوله من النساء.
كان يحزن كثيراً لموت ولاة الأمر والعلماء، فأتذكر عندما سمعنا نبأ وفاة الملك فيصل - رحمة الله عليه - وأردنا أن نخبره - حيث كنا نسكن في منزل واحد - فمُنعنا من أهل البيت حتى ينتهي من تناول طعام الغداء، لأن ذلك سيحزنه كثيراً، وهو ما حدث بالفعل.. لقد كان محباً لولاة الأمر داعياً لهم في دعاء التراويح والتهجد، وفي كل وقت، يمتعض وجهه وينهر كل من يغتابهم ولو في أبسط الأمور، ويطلب فوراً الدعاء لهم.. وفي موقف آخر، وبعد وفاة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - كان بيني وبينه مكالمة هاتفية، وأنا حينها أدرس في الخارج فعزيته في الشيخ إلا أنه لم يتمكن من إكمال المكالمة، حيث أجهش بالبكاء حزناً على وفاة العلاّمة ابن باز، ولسان حاله يقول: لقد فقدت الأمة عالماً وفقيهاً -رحمهما الله-.
كان جل وقته إن لم يكن كله يقضيه في عبادة الله (ذكر ودعاء وقراءة قرآن)، أتذكر في التسعينيات الهجرية أنه في بعض أيام الأسبوع ينتهى من محاضراته في كلية الشريعة قبل صلاة الظهر، فيتجه إلى المسجد لا البيت كغيره، فيجلس يقرأ القرآن ويذكر الله، ثم قبيل الأذان يتجه للبيت ليصطحب والده، وهذا جانب من جوانب بره الشديد بوالديه - رحمهم الله جميعاً -.
ومن رحمته بالناس أتذكر عندما كان يُصحح أوراق إجابات طلابه، كان يعزل بين لحظة وأخرى بعض كراسات الإجابة، ومن الفضول نسأله: لماذا هؤلاء يا عم؟.. يقول سأعيد النظر مرة أخرى في إجاباتهم، وفعلاً بعد أن يعيد النظر ويتلمس من هنا وهناك يجد ما يشفع لذلك الطالب ما يكمل به درجة النجاح، رحمة منه وشفقة عليهم ليتأكد أنه لم يظلم أحداً منهم، وأن من يخفق لديه فهو بالفعل مستحق لذلك، الله أكبر لم يقل إن ذلك فيه تعب أو مضيعة للوقت، لأنه يرى في ذلك عبادة لله سبحانه وتعالى.. ومن مواقف الإيثار أنه كان مشاركاً في أيام الحج بمشعر منى، وكان الوحيد من بين الجلوس يلبس غترة بيضاء، فدخل عليه أحد الحجاج، وسأله العم ما سؤالك ظناً منه - رحمه الله - أن من قصد مخيم الإفتاء هدفه الاستفتاء، إلا أنه فاجأه بقوله: أريد هذه الغترة التي على رأسك، فهبّ الجلوس وقالوا عيب عليك هذه تخص الشيخ، ولكن العم - رحمه الله - فاجأ الجميع برفعها وإعطائها السائل، سبحانه الله ما أرحمه وما أعطفه على من يتعامل معه.
كان لا ينقطع عن الذهاب إلى مكة المكرمة منذ عرفته - رحمه الله - وبالذات في شهر رمضان والحج، وقد روى لنا موقفاً حصل بينه وبين أحد أصحاب الفنادق القريبة من الحرم في التسعينيات الهجرية عندما قال له صاحب الفندق: تفضل لدينا غرف شاغرة، ولدينا ألعاب مسلية، وكان - رحمه الله - يرويها لنا متبسماً، حيث رد عليه وقال: يا أخي لم نأت من تلك الأماكن البعيدة، ونقطع تلك المسافات للعب، بل لنطلب ما عند الله، كان قلبه معلقاً بالله، ومن حرصه عندما يجلس في المسجد الحرام لقراءة القرآن ولكي لا يشغله متسوّل أو غيره عن الذكر والتلاوة كان يرفع شماغه بجواره ليخفي شخصيته خوفاً من انقطاع صلته بالله.
لقد كان بالفعل معلماً في كل الأوقات، فقد تعلمنا منه الكثير، ومن ذلك على سبيل المثال: بر الوالدين، وحب الخير للناس وخدمتهم والتأني والقناعة والتيسير، والأدعية والأذكار، فمن كثرة ما يرددها ونسمعها منه، في أحوال متفرقة حفظناها كدعاء الأكل والشرب، ودعاء السفر، وأدعية الصباح والمساء، والأذكار بعد الصلوات... إلخ.
قبل بضع سنوات علم بأنني سوف ألقي محاضرة خارج مدينة الرياض على مجموعة من القيادات التربوية، فبكى فرحاً، وهو يقول: كيف كان بالأمس أناديه في صغره زاحفاً، واليوم يذهب وهو الملقي والمعلم، يفرح كثيراً ويفتخر بأي منجز يحققه أحد أبنائه أو أبناء إخوانه وأخواته، يثني ويشجع، وكان - رحمه الله - يحب الصلح والإصلاح وينزعج كثيراً عندما يحتد النقاش بين اثنين في حضرته، لذا يُسارع في التوسط بالقول لتقريب وجهتي النظر.
ومما لفت أنظار كل من عرف العم والوالد والعم سعد - رحمهم الله -، أنهم لم يختلفوا في حاجة من حوائج الدنيا إلا وفي نهاية المطاف تجدهم قد اتفقوا في رأي واحد مهما كان مستوى الاختلاف في وجهات النظر، مما كان له أبلغ الأثر في نفوسنا نحن أبناءهم، فقد تلقينا درساً رائعاً في روابط الأخوة والإيثار، كما أن مجلسهم لا يخلو من فائدة دينية أو دنيوية، ولهم اهتمامات في مجالات شتى منها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، لا تخلو من فوائد للصغير أو الكبير على حد سواء.
وفي جلسات متفرقة قبل أكثر من خمسة عشر عاماً تحدث معي - رحمه الله - عن سيرته الشخصية، وكان بحضور الوالد والعم سعد - رحمهم الله جميعاً - وكان من أهم ما ذكره أنه من مواليد عام 1348هـ في حريملاء وبالتحديد في سوق السطر في العقدة في منزل محمد بن غدير، حيث إنه زوج جدته منيرة بنت عبد الله العميري التي تزوجت به بعد وفاة زوجها محمد بن حمد الثاقب.
درس العم عبد العزيز على العم حمد بن عبد الرحمن بن عبد الله في القيصرية (غرب جامع الديرة في حريملاء) جزء عم إلى سورة المعارج، وبعد وفاة العم حمد - رحمه الله - عام 1354هـ انتقل العم عبد العزيز إلى مدرسة الأستاذ محمد بن عبد الله الحرقان، وبدأ عنده بتعلُّم الهجاء (أَ، إِ، أَُ) ثم استعرض معه قراءته مع العم حمد حتى وصل إلى سورة الجن وكل ما سبق حفظه، ثم استمر في القراءة عنده حتى ختم القرآن تلاوة عام 1358هـ، وقد أكرم المطوع بثمانية ريالات فرانس بعد ختمه للقرآن تلاوة، وكان أثناء الدراسة يعطي المطوع في الصيف وقت الثمار عند جذاذ التمر وحصاد الزرع (البر) ما تيسر مما يكون مُرضياً له، مع احتسابه الأجر عند الله سبحانه وتعالى.
ثم بدأ في حفظ القرآن الكريم وانتهى من حفظه وعمره لم يتجاوز خمسة عشر عاماً وذلك في عام 1363هـ، وصلى بالجماعة في مسجد سوق الجريد بمحافظة حريملاء التراويح والقيام نيابة عن والده الجد محمد الذي كان إماماً للمسجد، وبدأ في قراءة العلوم الشرعية على فضيلة قاضي محكمة حريملاء آنذاك الشيخ عبد الرحمن بن سعد بن عبد العزيز آل حسن - رحمه الله -، حيث درس عليه الأصول الثلاثة، وكشف الشبهات، وكتاب التوحيد، والعقيدة الواسطية، والفرائض، ومتن الرحبية، ومادة النحو في الأجرومية، وآداب المشي إلى الصلاة، ومتن الزاد، وتفسير ابن كثير، وغيرها من الكتب والمتون، وذلك في مسجد الجامع بحريملاء أوقات الضحى وقبيل وبعد الصلوات حتى عام 1370هـ، حيث انتقل من حريملاء إلى الرياض للدراسة على فضيلة مفتي الديار السعودية آنذاك سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله -، ثم التحق بالمعهد العلمي (أربع سنوات) بالرياض بعد افتتاحه عام 1371هـ، وبعد تخرجه منه، التحق بكلية الشريعة (أربع سنوات) وتخرج فيها عام 1378هـ، وفي العام نفسه حصل على شهادة البكالوريوس في اللغة العربية، حيث كان أثناء الإجازات يدرسُ مقررات كلية اللغة العربية ويقدم فيها الاختبارات حتى حصل على شهادتها منتسباً، وأثناء دراسته وفي السنتين الأخيرتين اللتين انتسب فيهما، ونظراً لتميزه تم اختياره ليدرّس في المعهد العلمي بشقراء عامي 1377هـ و1378هـ، وبعد ما تخرج من كلية الشريعة عُيّن قاضياً في محكمة الرياض الكبرى عام 1379هـ، مدة ثلاث سنوات تقريباً، وكان يتردد على سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مطالباً بإعفائه من القضاء حتى نُقل مدرساً في كلية الشريعة ليدرّس فيها الفرائض والفقه، واستمر فيها حتى عام 1410هـ، حيث تقاعد من العمل الحكومي.. وأثناء تدريسه في كلية الشريعة قدّم على درجة الماجستير، وأكمل متطلباتها وناقش الرسالة عام 1396هـ، وكان نظام الكلية في ذلك الوقت يسمح بالترقية على وظيفة أستاذ مساعد مقابل الخدمة وبعض من البحوث، كما استمر في تقديم البحوث اللازمة لمرتبة أستاذ مشارك، وقدم بحوثاً أخرى حتى حصل على رتبة (أستاذ).
وفي عام 1411هـ دعاه سماحة مفتي عام المملكة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - يرحمه الله -، للعمل في مجال الإفتاء، في الرئاسة العامة للإفتاء، وتقديراً من العم لسماحة الشيخ ابن باز - رحمهما الله - استجاب لهذه الدعوة، وعُيّن على المرتبة الخامسة عشرة مفتياً حتى اعتذر عام 1430هـ، لتدني مستوى صحته، حيث كان بإمكانه العمل جزءاً من وقت الدوام، لكنه أبى فإما أن يعمل كامل الدوام أو فلا، فأصبح مجموع عمله في الدولة (54) عاماً تقريباً، كما كان يشارك في الفتوى في موسم الحج منذ عام 1403هـ حتى عام 1423هـ.
وله من الأبناء سبعة، ومن البنات أربع، يشهد لهم بالخير والصلاح ولله الحمد، وفي ختام هذه الوقفات أوصيهم بمواصلة البر بوالدهم كما كانوا معه في حياته، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جنانه، وجزاه الله خيراً عنا وعن ما قدم للإسلام والمسلمين ولهذا الوطن وأهله، وفي مثل هذا المصاب الجلل لا أملك إلا أن أمتثل قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
وداعاً يا حبيب القوم إنا
بفقدك نسأل الله الثباتا
- أ.د. عبد الرحمن بن حمد الداود