كأني بهِ يشعرُ بأنَّ حياته تنفلتُ من بينِ أصابعهِ كذراتِ الماء فلا يستطيعُ إيقافها، ولذا كمطرٍ هادئٍ تتقاطر من مهجتهِ الحسرات، ووجهُهُ المتلبدُ الناطقُ بالأسى كأنهُ خارجُ الزمن، وأشرعةُ نظراتهِ اليائسة في تيارِ عاصفةٍ هوجاء، تارة تحدقُ في يديهِ ورجليهِ وساقيه المنتفضة عليها التورمات، وتارة أخرى تحدجُ عيوننا المشفقة القانطة في أمره، وأما ملامحُهُ المجعدةُ، فمنكسة بيارقها، كشعرِ حاجبيهِ الطويل الأشيبْ، وكظهره الذي قوسهُ القعودُ المديدُ على فراشِ المرضِ المتشربِ بدموعهِ وأشجانه.
في كلِّ آن رجالاتُ القريةِ يفتحونَ ذاكرتهم فيتباهون بسِفر تفانيهِ وبترتيل مغامراتهِ، بل ويتغنونَ بالإشادةِ بهِ وبالمديح عليه، حيثُ كانَ، لا يعبرُ محطةَ عملٍ ما، إلا ونقشَ عليها بصمةً راقيةً مدهشة، يعرفُ وجهها الداني والقاصي، يفعلُ ذلك ولو وصلَ بهِ العطاءُ إلى حدِّ المبالغة وسُلِبَ أقصى طاقته، فهوَ كما يتوقُ إتقانَ عملهِ، يتوقُ الجهاد فيه، ثم تكونُ مبالغتهُ محاولةً في إغرائهم لإكرائهِ مجدداً وحيازتهِ على لقمةِ العيشِ الهانئة.
انبهارُهُم بهِ، بلْ وتفانيه، الآن يأخذُ بتلابيبِ خلايا جمجمتي، يجعلني أبسطُ المقارنةَ بينَ حالتهِ اليوم المنهارةُ المهدودة، الملأى بالحسرات، المستدرةُ للعطفِ والشفقة، وماذا حقق غيرَ بيتٍ يسكنه، وبين حالتهِ بالأمس ومكانتهِ بين العاملين المرموقين المفتخرِ بهم، وكيف يأتيه الثناءُ والإطراءُ وكثرةُ العطاءِ أيضاً؟ فأهامسني: أأفعلُ كما فعلَ بالأمس، لأستنسخَ شخصهُ الآني فيَّ؟.. ولو متُّ ألف مرة في اليوم مثله، وأحصل على بيت صغير يضمني وعائلتي؟ أم أبحث عن عملٍ بسيطٍ خفيفٍ جداً، لا أبذل فيه جهداً كبيراً، وإن حصلتُ على أجرٍ زهيدٍ دون ثناء، وإن لم أبتع بيتاً وأبقى في شقتي الضنكةُ التي استأجرتها جراءَ ضيقِ بيتنا بكثرة أخواتي وإخواني؟ فلربما أحتفظُ بصحتي وأموتُ دونَ استدرارِ عطفِ أحدٍ ما وأكونُ عالةً عليه.
الآن قاربَ الثمانين، ولم يفارقْ وجعهُ لحظةً مُذْ بلغَ الخمسينَ وبضعَ شهور، يَرى كيانهُ بتؤدةٍ يتحولُ من الشدةِ إلى الضعفِ، يصدرُ صريراً حينَ يلتقط أنفاسه، فيتمنى في كلَّ ثانية لو أن الموتَ يكونُ حليفهُ، ليَهْجر مرارةِ سقمٍ لا يُهادَنْ، بل ويتصورُ بالموتِ يُريحنا، نحنُ الذين يستنتجُ من ملامحِ بعضنا السأمَ جراءَ مساعدتهِ المستمرةِ على أداءِ حاجاتهِ التي يخجلُ كثيراً من أدائها فوقَ فراشهِ لا إرادياً قبلَ أن يطلب، يتصور هذا وإن كانَ أغلبنا لا يجامله، فالحبُّ والحنانُ والفضلُ ونيلِ رضاهُ، هي القوى الداعيةُ على قيامنا به.
لا لن أغامر مثله، ليتهُ سعى في الأرض وسطاً، فلربما لمْ تصلْ بهِ الحالُ إلى هذا الدركِ الأسفلِ من المرض الذي لمْ يزلْ يعتكفُ في منعطفاته..... آهٌ كمْ افتقدنا لذةَ ابتسامتهِ وضحكاتهِ، كم عُدِمْنا تَلقفَ صدرهِ لأجسادنا؟!!..).. نشجتُ بهذا بين سكرةِ العتابِ والملامة، وبين ثمالةِ الحسرةِ والبكاء، لكن شجوي للجلوسِ إلى جانبهِ سرعانَ ما استفزني، فأخذتُ يمينهِ بهدوء، شممتها، قبلتها، وبلطفٍ صرتُ أمسحُ براحتي على ظهرها، ثم كمطرٍ هادئ تقاطرتْ من مهجتي الحسرات، وأشرعةُ نظراتي اليائسةُ تاهتْ في عاصفةٍ هوجاء، تارةً تحدقُ في تفاصيلِ جسدهِ المكدودِ المستسلمِ لأصفادِ السقم، وتارةً تتركزُ في عينيهِ الغارقةَ بجيوشِ الدموعِ، أقيس كتلها بكتلِ دمعي، أقارنُ بينَ طلائعِ حسراتي الهادرةُ وطلائعُ حسراتهِ المنسكبة، أعيدُ إيقاعَ صريرِ الآهاتِ المنبعثةِ من بينِ اصطكاكِ أضلاعه، وأتهيبُ من غموضِ عاقبتي وبجلاءِ عاقبته.
بينا كنتُ كذلك، أمسحُ كما يُمسح على يدِ طفلٍ رضيعٍ يَشعرُ بألمٍ خفي، إذا بهِ يسحبها سريعاً من يديَّ، قائلاً: (آي، لا أستطيع أن يلمس يدي أحد)، قالها بنبرةٍ متهدجةٍ لم تخلُ من خجل!!.
- عبدالله النصر