د. خالد بن محمد الجديع
يندر أن يحدث إجماع على قضية ما، والتاريخ يعلمنا أن الأحداث التي مرت بها الأمة منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عهدنا هذا تتباين فيها الآراء، وتختلف التوجهات، فحين عرض النبي صلى عليه وسلم يوم أحد على أصحابه -بعد عزم قريش على قتاله-
طريقة المواجهة كان هناك فريقان، أحدهما يرى الخروج من المدينة للمواجهة، والآخر يرى البقاء فيها حتى يدخلها العدو، وقد مال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى رأي الشباب الذين يرون الخروج لمناجزة قريش.
وحين امتنع بعض العرب عن دفع الزكاة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كان للخليفتين أبي بكر وعمر رأيان، فالثاني منهما لا يرى القتال، في حين يرى الصدِّيق قتالهم فلا مسوغ لديه للتفريق بين الصلاة والزكاة، وكانت كفة الصدِّيق هي الراجحة.
ويستمر مثل هذا التباين في الآراء على امتداد تاريخنا الإسلامي سواء أكان ذلك في المشرق العربي أم في المغرب والأندلس، وليس هنا محل عرض الأمثلة؛ لأن مقالة مثل هذه لا تستوعب إيراد مزيد من النماذج. ولا أكاد أرى فيما قرأت من أحداث تاريخية مرت على أمتنا ولاقت إجماعاً منقطع النظير مثل ما حصل من إطباق الشعب السعودي على القرار الحكيم الذي اتخذه الملك سلمان لضرب الحوثيين ومباغتتهم في عقر دارهم، ذلك أن الدقائق والثواني في مثل هذه الأحداث لها أهميتها وعنصر المفاجأة له مكاسبه الكبيرة. إنها لحظة تاريخية نادرة فوجئ بها الشعب كاملاً، ولاقت ترحيباً من كل الأطياف.
ولأن لي اهتماماً بالدرس الحِجاجي المنطقي (Argumentation Logical) منذ أكثر من عقد، فهو يدخل في صلب النظرية التداولية التي تخصصت فيها، فقد رأيت من واجبي أن أسهم في هذه المقالة برأي في موضوع التجنيد الإجباري الذي دعت إليه بعض الآراء مع انطلاقة عاصفة الحزم.
للخصوصية التي تتمتع بها هذه القضية العادلة -كما أسلفت في صدر هذا المقال- أرى أن يكون التجنيد تطوعياً لا إجبارياً للأسباب التالية:
1 - وجود كوكبة من الشباب الممتلئ شموخاً وكبرياءً، يتطلعون لفتح باب التجنيد التطوعي لينخرطوا فيه، وهم عدد أحسب أنه ربما يتجاوز مئات الألوف.
2 - اختلاف الناس في قدراتهم ومواهبهم، فهناك القادر جسمياً ونفسياً لخوض مثل هذه الظروف الصعبة، وهناك من هو دون ذلك، والزج بالضعيف يقود إلى الخسارة لا إلى الربح؛ لأنه سيكون عبئاً.
3 - حين تكشر الحرب عن نابها لا نحتاج فقط إلى الجندي، بل نحتاج إلى الطبيب وإلى الفيزيائي وإلى عالم الإحصاء، وإلى المفكر... إلخ، وهذه الجبهة الداخلية لا تقل أثراً عمن هم في ساحة القتال، ولا أرى أن نضيَّع على طالب الطب -مثلاً- سنة دراسية تكون للتجنيد ولا أن تمر سنة بعد تخرجه تنفق في ذلك، فنحن أحوج ما نكون إلى أن ينهي دراسته ويلتحق بوظيفته، ليداوي ويجري العمليات التي سترفع من المعنويات الداخلية للجند، حين يعلمون أنهم إن أصيبوا فسيلقون الرعاية الصحية الكاملة.
4 - لا يُعلن التجنيد الإجباري إلا في الأمم التي لا يثق أفرادها بقضاياها؛ ولذا يلجؤون إلى القانون لحمل الناس على الدفاع عن مواقف سياسية لا يؤمن بها أفراد مجتمعهم، ولما أدركت كثير من الدول الحديثة ذلك تخلت عنه، كالولايات المتحدة وبريطانيا.
5 - أثبت التجنيد الإجباري فشله في كل الحقب التاريخية، فالروم كانت تربط المجموعات الكتائبية بالسلاسل، حتى لا يفر الجندي؛ لأنه إن حاول ذلك فلن يستطيع، فكل فرد مربوط بمن عن يمينه ويساره، وقد أسهمت هذه الطريقة في إيقاع الهزيمة بشكل أكبر، فبمجرد أن يُقتل جندي، ويحاول الآخر الفرار ينهار الصف كاملاً، ويسوق ذلك إلى انتقال العدوى للصفوف الخلفية التي تلبط بالأرض في صورة كاريكاتورية تشبه اشتعال عود ثقاب واحد في علبة كبريت، إنها نهاية سريعة في وقت قياسي.
6 - ما سيسببه المجنَّد إجباراً من الخذلان لرفاقه الممتلئين بالحماسة، فهو لن يفتأ يتسخط ويتململ، وهذا بلا شك يفتُّ في عضد الجيش الصابر، ويوهي عزيمته.
7 - ما توحي بها كلمة إجبار من قسوة، فكأننا نسوق المجنَّد إلى ساحة القتال قسراً، ونحن لا نحتاج إلى مثل ذلك. هل نريد أن يكون شعارنا (مكره أخاك لا بطل) أو أن يكون (بطل أخوك لا مكره)؟!.
8 - تشيع بين المتطوعين عادة روح الفريق الواحد المؤمن بقضيته، وما أحوجنا إلى ذلك في مثل هذه الظروف.
9 - ما نسمعه في الدول المجاورة من التهم -التي تلاحق بعض الشخصيات- المتعلقة بالفرار من الجندية، وعادة ما تساق هذه التهمة مع تهم أخرى، يختلط فيها الحابل بالنابل، وربما قدم الفارّ من التجنيد أسباباً تنخر في لحُمة هذا التماسك وسُداه، وهنا أقول :نحن لا نتمسك بمن يفر، بل نرحب بمن يكر.
10 - تعلمنا من تاريخنا المجيد أنه حينما يخرج من صفوف العدو مقاتل يطلب المبارزة، لا يقول القائد للجيش الإسلامي: اخرج له يا فلان، وإنما يقول: من له أو من يكفينا إياه، وقد أثبتت هذه الطريقة نجاعتها في تحقيق النصر، وخير مثال على ذلك ما حدث يوم بدر حين خرج عتبة وشيبة ابنا ربيعة ومعهما الوليد بن عتبة متحدِّين، فقد تطوع حمزة بن عبدالمطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث لمبارزتهم، وأحسب أن الهزيمة التي لحقت بالمشركين يوم بدر كانت شرارتها منبعثة من مقتل الصناديد الثلاثة الذين أبدوا فروسيتهم. للعاطفة أهميتها، لكنها لا ينبغي أن تأخذنا عن المنطق، ولذا أعلن هنا أني مع الاختيار ولست مع الإجبار. حرس الله هذا الوطن من كل متربص وكائد وغادر.. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.