الدمام - فايز المزروعي:
أكد مركز السياسات النفطية والتوقعات الاستراتيجية أن «التحوط» أهم وسيلة لمواجهة انخفاض أسعار النفط، إلى جانب تبني استراتيجية سريعة وفعالة لخفض الاعتماد على عائدات الإيرادات المالية من النفط، وذلك بوضع استراتيجية وتبنيها سريعا لحماية احتياطياتها المالية من الانخفاض والتآكل، ولتوفير دخل سنوي غير مرتبط بأسعار النفط المتذبذبة، لتحقيق مزيد من الاستقرار الاقتصادي.
وقال لـ«الجزيرة» رئيس المركز الدكتور راشد أبانمي، إن صندوق الثروة السيادية، يُعدُّ أهم الوسائل للاحتفاظ بالثروة المتراكمة لتحقيق عوائد أعلى للاحتياطي الرسمي للمملكة، فمهمة الصندوق إدارة الفوائض المالية للمملكة من أجل الاستثمار الأمثل عبر تحقيق عائد مجز كمثيله من الصناديق السيادية، التي تستثمر ثروتها باحترافية وخبرات عالية وبشفافية ومراقبة فعالة، وفي أدوات متعددة ومتفاوتة وأجهزة استثمارية متفاوتة المخاطر لتحقق عوائد مجزية.
وقال أبانمي: «إن الصناديق السيادية تعتبر من النوع الأول للاستراتيجيات السريعة والفعالة لتنويع مصادر الدخل، مشيرا إلى أن الصناديق السيادية ليست ظاهرة جديدة، بل يعود تاريخ بعضها إلى منتصف القرن المنصرم، ومع نجاحها الباهر في تحقيق عوائد مجزية عبر التاريخ، بدأت معظم دول العالم في تبنيها مؤخرا، إِذْ استحوذت تلك الصناديق على استثمارات كبيرة حتى شملت استثمارات في كل القطاعات والهيئات العملاقة، وفي جميع أنحاء العالم، حيث تأتي الصين في المرتبة الأولى، إِذْ بلغت قيمة صناديقها السيادية نحو تريليون وتسعمائة مليار دولار أمريكي، وتتفاوت الأرقام التي تحدد موجودات تلك الصناديق بشكل واسع، ومن الصعب تقديرها، نظرا لأن عددا كبيرا منها لا يعلن عن حجم أمواله، ولكن بعض التقديرات تبيّن أن الحجم يقدر بسبعة تريليونات ونصف التريليون دولار، وبحسب تقديرات «ستاندرد تشارتر» فإنَّ حجم موجودات الصناديق السيادية يعادل 12 في المئة من إجمالي القيم المتداولة في بورصة نيويورك فقط.
وأضاف الدكتور أبانمي: «إن تأسيس صندوق سيادي للمملكة، سيمكنها من إدارة فوائضها المالية في أدوات مالية كثيرة وبعملات عالمية متعددة، ما سيحقق لها أرباحا سنوية بمعدلات ضخمة كمثيله من الصناديق السيادية الأخرى تحقق ما بين 8 إلى10 في المئة عائدا في العام، وذلك لتنوع استثماراتها في الأسواق والعملات العالمية، وبالتالي فإنَّ العائد السنوي سيقفز من ثلاثة مليارات دولار أمريكي، كما هو الحال الآن إلى نحو 76 مليار دولار سنوياً أو ما يشكل نحو 30 في المئة من الإيرادات المالية للمملكة، حيث بلغت الميزانية لعام 2015، 190 مليارا و700 مليون دولار يشكل الواردات المالية النفطية منها نحو 90 في المئة، أي أن اعتمادنا على الواردات النفطية سينخفض وبشكل تلقائي وعلى المدى القصير، أي بعد عام من إنشاء الصندوق، إلى 60 في المئة، وبالتالي توفير دخل سنوي للمملكة غير مرتبط بأسعار البترول المتذبذبة، ما يحقق مزيدا من الاستقرار الاقتصادي للمملكة واستمرار تنفيذ خططها الاقتصادية المستدامة، وكذلك مرونة أكثر في تبني سياستها النفطية المستقلة، وتأسيسا على ذلك فالتحوط من انخفاض أسعار النفط بشكل فوري يجب أن يكون من جل اهتماماتنا في الوقت الحاضر والعمل وبشكل سريع على وقف تآكل أصول المدخرات والاحتفاظ بها كأصول لعوائد تستخدم لتخفيض اعتمادنا على الموارد النفطية.
وأكَّد أبانمي، أنه على خلفية تراجع أسعار النفط إلى مستويات الـ 50 دولارا للبرميل، فإنَّ المملكة تتكبد خسائر جمة أهمها استنزاف مورد ناضب، وفي إيراداتها غير المحققة ربما تصل إلى قرابة ثلث إيراداتها من بيعها للنفط الخام هذا العام، ما سيجعلها تسحب من مدخرات الاحتياطي العام الذي فاقت فوائضه المالية نحو 762 مليار دولار، وحتى لا تتآكل تلك المدخرات التي يجب أن يحافظ عليها كأصول للجيل الحالي وللأجيال المقبلة، فمن الضرورة بمكان أن تتبنى استراتيجية سريعة لحفظ ولتنمية تلك المدخرات.
ولفت أبانمي إلى أن المركز ركز في استراتيجيته الثانية على الاستراتيجية ذات المدى المتوسط والبعيد لتنويع مصادر الدخل، وذلك من خلال التركيز على ما تتميز به المملكة مقارنة بغيرها من باقي الدول الذي من شأنه توفير مورد مالي غير مرتبط ببيع النفط، وبالتالي تحقيق تنويع مصادر الدخل، وخفض الاعتماد على إيرادات النفط، وهو الهدف الأساسي الذي تبنته كل الخطط الخمسية الحكومية التنموية منذ بداياتها الأولى عام1970 إلى الآن، إلا أن واردات النفط ما زالت تشكل أكثر من 90 في المئة من دخل المملكة، ما يستدعي مراجعة أولوياتنا الاستراتيجية ووضع أهداف زمنية متقاربة يقيم فيها مدى نجاحنا من عدمه في تخفيض تلك النسبة الكبيرة من اعتمادنا على عائدات البترول، وتحقيق الهدف المنشود لتنويع مصادر الدخل وذلك من خلال التركيز على المميزات النسبية للمملكة، حيث تمكَّن نظرية الميزة النسبية لصانعي القرار لدولة ما بتقدير الكفاءة النسبية التي يتم من خلالها مقارنة تكاليف إنتاج سلعة أو خدمة معينة بين الدول في التبادلات الخارجية. والتكلفة المعنية في هذه المقارنة تعني تكلفة الفرصة البديلة، إِذْ إن هناك عديدا من العوامل التي يمكن أن تؤثر في الأفضلية المقارنة للدولة مثل المميزات الطبيعية لبلد ما كالموقع الجغرافي، أو وجود معالم أثرية فيه، أو وجود الموارد الطبيعية مثل أنهار، معادن، نفط، غاز، وغيرها من الموارد، وعلى سبيل المثال حققت اليابان معجزة اقتصادية بالتركيز على عنصر موجود لدى الدول قاطبة تمثل في العنصر البشري، وجعلت منه ميزة نسبية تفوقت به على باقي الدول في خلال 15 عاماً، حيث ارتفع إجمالي الناتج المحلي الاسمي ارتفاعاً كبيراً من 91 مليار دولار في عام 1965 ليسجل رقماً قياسيا قيمته 1.065 تريليون دولار أمريكي عام 1980، إذ تبع تلك المعجزة اليابانية دول كثيرة مثل كوريا الجنوبية التي نهضت بعد الحرب الكورية واستحدثت هي الأخرى مهارات القوى العاملة والتقنية نظرا لافتقارها إلى أي ميزة أخرى ونجحت فيها وتميزت نسبياً على باقي الدول، وعطفا على هذا المثال، فقد حبا الله المملكة كثيرا من المزايا التي تجعلها قادرة على تنويع مصادرها للدخل على المستويين المتوسط والبعيد، حيث إن المملكة لديها كثير من الميزات خصوصاً ثلاث مميزات نسبية مهمة تتمثل في وجود النفط بكميات هائلة، ووجود اطهر بقاع الأرض في مكة المكرمة والمدينة المنورة، إلى جانب موقها الجغرافي المميز بين دول العالم، هذه الميزات التي لا يوجد مثيلها في أي من دول العالم، قادرة على أن توفر مداخيل مالية هائلة وتحقق مكانة عالية بين الأمم لو تمت الاستفادة من تلك المميزات، وبالتالي فإنَّ وضع تلك المميزات على قائمة الأولويات وإعادة تشكيل البنية الاقتصادية، سيؤهل المملكة لأن تصبح من أوائل كبريات الاقتصاد في العالم، حيث تكمن الميزة الأهم وبلا منازع في وجود النفط بكميات هائلة، إِذْ تشير التقارير الرسمية إلى أن الاحتياطيات للمملكة عند مائتين وستين مليار برميل (260 مليار برميل)، لكن هذه الميزة النسبية ظلت حبيسة فقط لإنتاجه وتصديره كمادة أولية، فالمملكة حالياً أكبر بلد مصدر للبترول الخام للأسواق العالمية، فلا تزال صناعات البترول التحويلية لم تتعاظم ولم تنجح في إحداث تحول صناعي وتقني حديثين يمكنها من ترسيخ قاعدة إنتاجية لاقتصاد حقيقي يتيح موارد اقتصادية مضافة، مثلما يتيح فرص عمل جمة كالصناعات التحويلية للبترول، بل اعتمدت على تصدير أكثر إنتاجها من البترول كمادة أولية، وبلغ إنتاج المملكة للنفط الخام معدلات شهرية ما بين 9.6 إلى عشرة ملايين برميل يوميا، أي إنتاج 3.5 مليار برميل خلال العام الماضي 2014، بزيادة أكثر من 100 مليون برميل عن عام 2013 أي ما يعادل ثمن الإنتاج العالمي من النفط الخام، والخطورة هنا تكمن في أن هذا الإنتاج الكبير سيؤثر سلبيا في الاحتياطيات، وثانيا أن بيعه في صورته الخام فيه هدر وخسائر غير محققة، فيما لو تم التمحور حول هذه الميزة العظيمة واستثمارها خير استثمار بالقيام بصناعات تحويلية للمشتقات النفطية وغيرها، فامتلاك المملكة نحو ربع الاحتياطي العالمي بمفردها، يؤهلها لأن تتربع على عرش الصناعة التحويلية للبترول، ويتحقق ذلك بوضع استراتيجيات واضحة المعالم لرفع مستوى عمليات النفط النهائية المتمثلة في التكرير والمعالجة، إن رفع مستوى الكفاءة الاقتصادية لاستغلال الثروات النفطية ينبغي ألا يقف عند حدود تصدير النفط الخام، بل إن الأمر يتطلب الاستفادة من الميزة التنافسية للصناعة البترولية التي لا تتمتع بها أي منطقة في العالم كما تتمتع بها المملكة، حيث إن تبني خطة تعتمد على بناء قاعدة اقتصادية تحويلية ولاقتناء وتطوير علوم التقنية المتقدمة في الصناعة التحويلية للبترول بمشاركة شركات التقنية العالية، وكذلك بالتوسع في معاهد البحث والتطوير والجامعات التقنية المختلة من أجل رفع قدرات المملكة التحويلية إلى 100 في المئة خلال السنوات العشر المقبلة، سيحقق للمملكة قيمة مضافة وموردا اقتصاديا كبيرا يسهم في رفع معدل النمو الاقتصادي الوطني، ومحفزا لنمو القطاعات الأخرى.
وأشار الدكتور أبانمي إلى أن الميزة النسبية الأخرى للمملكة، التي من شأنها إدخال تغييرات جذرية في بنية الاقتصاد الوطني، وبالتالي تقليل النسبة المئوية من اعتمادنا على العائدات النفطية، تتمثل في وجود اقدس بقاع الأرض في مكة والمدينة ووجهة الحجاج والمعتمرين طوال العام والتي تتميز بها المملكة عن باقي الدول لما فيها من تنويع لمصادر الدخل، مع ضرورة وضع أهداف زمنية متقاربة يقيم فيها مدى تخفيض النسبة المئوية الكبيرة من اعتمادنا على العائدات من بيع النفط الخام، لافتا إلى أنه لا شك أن صرف المملكة على الأماكن المقدسة وعلى الحجاج هو واجب ديني تتشرف المملكة بالقيام به، ولاشك أن المصروفات على موسم الحج والعمرة أكثر من المداخيل حالياً، وفي نفس الوقت، لا يوجد مانع من الاستفادة من هذه المواسم وأن تتعامل المملكة مع الحج والعمرة ليس كعبء اقتصادي وتنظيمي، بل كميزة اقتصادية يجب تعظيمها وجعلها ركن من أركان الاقتصاد الوطني، فقبل عصر النفط كان اقتصاد المنطقة قائما على تلك الميزة، كذلك هنالك آثار اقتصادية مهمة جداً للحج ولا يمكن وضعها في إطار جزئي واحد، فمعظم المسلمون الذي يبلغ تعدادهم في العالم حوالي المليارين ويتزايدون بمعدل 6.7 في المئة سنوياً، يتطلعون لأداء فريضة الحج أو العمرة، وأمام هذه الأعداد التي تزور المملكة من الحجاج والمعتمرين لازال اقتصاد الحج والعمرة ضئيل في اقتصاد المملكة، ولابد من استنباط موارد جديدة حول الأماكن المقدسة لزرع بذرة الميزة النسبية وذلك بتقاسم قطاعات اقتصادية عدة كالسياحة والصناعة الذي تعتبر من أهم المدخلات في اقتصاد الدول، كما أن في الحج رواج اقتصادي وصناعي من خلال الاستفادة القصوى من لحوم وجلود الهدي والأضاحي الذي يصل حجمه إلى أكثر من 5 ملايين أضحية، خصوصاً التركيز على الصناعات التحويلية للجلود كمصدر للجلاتين الحلال الذي معظمه الآن يُصنع من الخنزير، سواءً أكان لأغراض طبية أم للاستعمال في المواد الغذائية، بالإضافة إلى إنشاء صناعات خفيفة للوازم الحجاج وهداياهم وحاجياته بعلامات تجاريه محمية قانوناً من الغش أو التقليد، وتبرز هوية الحرمين الشريفين.
وتابع أبانمي «بالإضافة إلى ثقل المملكة الديني وفي مجال الطاقة يضاف إليه ميزة ثالثة لا يستهان بها وهو الموقع الجغرافي للمملكة وتعظيم الاستفادة ما أمكن من تلك الميزة، إِذْ تتمتع المملكة بكبر مساحتها وموقعها الجغرافي الذي لا مثيل له تتوسط فيه ثلاث قارات آسيا وأوروبا وأفريقيا ونقطة ارتكاز جغرافية ودينية للعالمين العربي والإسلامي، ونقطة التقاء للقوافل التجارية بين الشرق والغرب ووسط آسيا وإفريقيا والخليج العربي وأوروبا، وهي حلقة وصل رئيسية بين الشرق والغرب، مبينا أن توافر المميزات النسبية لدولة ما ليس كل شيء، ففي النهاية تخضع هذه المعطيات للإدارة السليمة التي تحسن الاستفادة من هذه الخصائص، فالعبرة هنا هو في القدرة على الاستفادة من هذه المميزة والعمل على تطويرها واستخدامها في المكان المناسب بما يعزز القوة الاقتصادية واستمرارها.
وأضاف «إن تفعيل موقع المملكة الاستراتيجي بتعظيم دالة الميزة النسبية الاقتصادية الثالثة للمملكة بعد النفط وموسم الحج والعمرة، بتوجيه الاستثمارات في البنية التحتية التي من شأنها أن توثق روابطها بالاقتصاد العالمي في مشروعات عديدة مثل موانئ عالمية - شبكات نقل دولية برية وبحرية وجوية، وقد يضاف لها بناء السفن، وكذلك تمويل مشروعات تعظيم حركة السياحة بتأهيل الجزر وتحديث وتأهيل وإنشاء أكبر الموانئ في المنطقة ومحطة رئيسية إضافية على ساحل البحر الأحمر، وتجهيزاته الحديثة للغاية وإمكانية استقبال أضخم السفن العملاقة، وتوفير العديد من الفرص في مختلف المجالات، والترويج للاستثمار في الصناعات المساندة كمنطقة عبور في صناعات الشحن والاستيداع وإعادة الشحن وجميع الخدمات اللوجستية، وإنشاء موانئ جافه لإصلاح وصيانة وتقديم الخدمات للقوارب وسفن الصيد والأدوات الكهربائية وجذب شركات النفط الكبرى لإنشاء المصافي النفطية ومصانع التكرير لتصبح المملكة أكبر مركز لتكرير النفط في العالم وأكبر مركز لتجارة النفط في مستوى نيويورك ولندن.
كما أن كبر مساحة المملكة وبواجهات كبيرة على البحر الأحمر والخليج العربي يجعلها قادرة أيضاً على التركيز على تنويع مصادر الاقتصاد لكل منطقة ومحافظة، وذلك بوضع خطط استراتيجية لكل منطقة ومحاولة التركيز على ميزة كل منطقة النسبية مقارنة بالمناطق الأخرى.
وأشار رئيس مركز السياسات النفطية والتوقعات الاستراتيجية إلى أن تذبذب أسعار النفط هو سمة من سمات السوق، لكن ما جرى منذ منتصف العام الماضي هو انهيار في الأسعار غير معهود، حيث بدأت أسعار النفط بالانخفاض وواصل الانخفاض بشكل كبير ومتسارع في سعره إلى ما دون الخمسين، مما يعني انهيارا في الأسعار، نظرا لأن الفرق بين الانهيار للأسعار وبين الهبوط المتدرج للأسعار هو العنصر الزمني، وأن ما يجري الآن من انخفاض لسعر النفط من سقف 114 دولارا للبرميل إلى أدنى من 50 دولارا، بمعدل تدنٍّ بلغ أكثر من 50 في المئة خلال الأشهر الأخيرة، وقابلية أن يستمر الانخفاض بوتيرة سريعة لمعدل ربما يكون بمقدار يزيد على خمس مرات ليبلغ 20 دولارا للبرميل الواحد خلال الشهور القليلة القادمة كما أوضح ذلك التقارير الدولية، مما يجعل ذلك انهيارا في أسعار النفط، حيث يرى البعض من المراقبين أن انهيار أسعار النفط في الآونة الأخيرة هو نتيجة طبيعية للعوامل الاقتصادية وفي مقدمتها تزايد الإنتاج من الصخور النفطية في الولايات المتحدة وتراجع الاستهلاك النفطي في الصين وارتفاع سعر صرف الدولار مقابل العملات الرئيسة الأخرى، وفي الجهة المقابلة يرى البعض الآخر أن الأهداف الجيوسياسية لعبت دورا ليس خفيا في ما يحدث، وأن ما يحدث الآن من انخفاض للأسعار ليس جزءا من دورة اقتصادية طبيعية، بل هناك ما يشير إلى وجود قرار سياسي خلف هذا الانهيار نظرا لأن النفط يلعب دورا كبيرا في السياسة الدولية وبشكل متزايد خلال العقود الماضية، وفي وقتنا الحاضر في الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا، ولاسيما أن النفط كان منذ عامين قد بدأ استخدامه سياسيا وكان من أهم بنود حزم العقوبات الاقتصادية المفروضة من الولايات المتحدة والمجتمع الدولي على دول مثل إيران على خلفية برنامجها النووي، وأخيرا العقوبات الاقتصادية على روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية، فانهيار أسعار النفط بشكل مفاجئ ومتسارع خلال فترة قصيرة جدا أمر يثير الكثير من الأسئلة بحقيقة وجود تدخلات سياسية، ولاسيما أن التاريخ الحديث الذي يزخر بالأزمات الكبرى التي استخدم فيها النفط كسلاح فعال للضغط على دولة أو أكثر لتحقيق أهداف سياسية، لكن الرأي الأرجح في تقدير الكثيرين أن الأسباب الحقيقية وراء انهيار الأسعار هي مجموعة من المتغيرات السياسية والاقتصادية والمالية العالمية التي تزامنت وتفاعلت مع بعضها البعض أدت إلى انخاض الطلب على النفط وبالتالي الانهيار في الأسعار، فهناك انكماش لم يكن متوقعا في الاقتصاد الأوروبي والصيني والياباني، وتزامن مع ارتفاع قيمة الدولار أمام العملات الرئيسة الأخرى، مما جعل استيراد النفط أكثر كلفة على الاقتصادات المتباطئة وبالتالي انخفض حجم الطلب على النفط في الوقت الذي ارتفع حجم الإنتاج العالمي من خارج «أوبك»، وتأثير المضاربات في أوضاع غير مستقرة، ولاسيما في ظل التوقعات الاقتصادية المتشائمة لعام 2015.
وتابع: «المهم في الأمر وبغض النظر عن الأسباب التي أدت إلى انهيار أسعار النفط، وهو موضوع مهم كان أحد الموضوعات الهامة تطرق لها المركز في تقريره السنوي، إلا أن ما يهمنا حالياً هو كيفية التعامل مع موضوع أسعار البترول المنخفضة إلى حد الانهيار نظرا لأن اقتصادنا مرتبط ارتباطا عضويا بعوائد النفط، وبالتالي فإنَّ الدورة الاقتصادية التي نمر بها الآن في بداية نزولها، مما يوجب مراجعة الاستراتيجية الاقتصادية برمتها، وتدارك الأمر بسرعة ليقل الاعتماد على النفط، فالتحديات عميقة ولم نكن أكثر اعتمادا على إيرادات النفط مما نحن عليه الآن، وبذلك فإنَّ الحاجة أصبحت ملحة للانتقال إلى مرحلة تنويع مصادر الاقتصاد لمواجهة متغيرات الدخل، وخفض الاعتماد على إيرادات النفط؛ نعم هذا الهدف الذي دأبت كل الخطط الخمسية الحكومية التنموية منذ بداياتها الأولى ولم يتحقق على الإطلاق، حيث إن واردات النفط ما زالت تشكل أكثر من 90 في المئة مما يستدعي، وعلى وجه السرعة، تخفيض تلك النسبة الكبيرة من اعتمادنا على عائدات البترول، فالمعلومات اليقينية والمتواترة عاما بعد عام، تشير بشكل مؤكد، لا لبس فيه، إلى استمرار اعتماد اقتصاد المملكة العربية السعودية شبه الكلي على إيراداتها من إنتاج النفط وبيعه، وبالتالي أسعاره التي تمر الآن بمرحلة انخفاض حاد، ما يزيد الضغط على الموارد والمدخرات المالية للمملكة.