دائماً يجول في فكري وعقلي عدة أفكار وخواطر مبعثرة، من مواقف حصلت وسلافات مضت وأحداث خلت، قررت أن أقوم باصطيادها وترتيبها ولملمتها، وضمنت معها بعضا من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وما يتناسب من أبيات شعرية وحكم أدبية، وفي هذه المقالة المتواضعة ضمنت مع ذلك كله بعضا من عبارات أمي - حفظها الله وأمد في عمرها على الطاعة والخير - التي كانت تقولها لي في عدة مناسبات، التي قد تبدو بسيطة في قولها ومنطوقها لكنها ملهمة وعظيمة في الأثر وما تبقي، فالأم المربية والمعلمة الأولى وكل خير نراه علينا هي من تقف وراءه، أحببت أن أنقل هذه الخواطر المبعثرة إليكم وأشارككم بها، علها أن تجد مكانا في قلوبكم، وأن ينفع الله - عز وجل - بها أسأل الله الإخلاص في القول والعمل.
أبصر فيمن تحب ما تحسن، فعين الحب والرضى ترى في الناس المحاسنا. سيصبح الأعمى أبصر منك إذا لم تكن ترى إلا عيوب غيرك. سامح فأنت الرابح، وتغافل فتسعة أعشار الحياة في ذلك وهو من شيم الكرام، وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ ..
قال ابن القيم رحمه الله: يا ابن آدم.. إن بينك وبين الله خطايا وذنوب لا يعلمها إلا هو، وإنك تحب أن يغفرها لك الله، فإذا أحببت أن يغفرها لك فاغفر أنت لعباده، وإن وأحببت أن يعفوها عنك فاعف أنت عن عباده، فإنما الجزاء من جنس العمل، تعفو هنا يعفو هناك، تنتقم هنا ينتقم هناك تطالب بالحق هنا، يطالب بالحق هناك.
قال الشافعي رحمة الله عليه:
لَمَّا عَفَوْتُ وَلَمْ أَحْقِدْ عَلَى أحد
أَرَحْتُ نَفْسِي مِنْ هَمِّ الْعَدَاوَاتِ
إنِّي أُحَيِّي عَدُوِّي عِنْدَ رُؤْيَتِهِ
لِأَدْفَعَ الشَّرَّ عَنِّي بِالتَّحِيَّاتِ
وَأُظْهِرُ الْبِشْرَ لِلْإِنسان أَبْغَضُهُ
كَأَنَّمَا قَدْ حَشَى قَلْبِي مَحَبَّاتِ
النَّاسُ دَاءٌ دَوَاءُ النَّاسِ قُرْبُهُمْ
وَفِي اعْتِزَالِهِمْ قَطْعُ الْمَوَدَّاتِ
كن هيّنا ليّنا سهل المعشر، كريم اللسان وطيّب الكلام، عذب الخصال ونبيل الأخلاق، تواضع واعتذر إن أخطأت فلا عيب في ذلك أبدا، عش حياتك لا حياة غيرك، لا تثقل على ذاتك بحمل هم، أو خلق مشكلة، أو أن تتذمر من شيء، تستطيع وضع ذلك جانبا والمضي قدما بأن الله أكبر من كل شيء.
ذكر شيخنا صالح المغامسي وفقه الله، أن النبي - صلى الله عليه وسلَّم - أخبر أنه لا شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق، وحسن الخلق يعتمد على ركيزتين أساسيتين: فعل وترك، أما الفعل: فإتيان الخير إلى الناس.
وأما الترك: فترك السيئة التي يتضرر بها الغير.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلَّم - أَنَّهُ قَالَ: مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ رَجُلاً بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أحدٌ للهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ.
أن تجد من تحب ويحبك لشخصك لا لاعتبارات أخرى كالجاه والمنصب والحسب والنسب، ذلك هو الجمال اللطيف النقي والشعور الصافي، ابتسم وتصدق، دائما تقول لي أمي - حفظها الله وأمد في عمرها على الطاعة والخير -: «خل يدك تذرا»، فالصدقة شأنها عظيم وأثرها كبير، وقليل دائم خير من كثير منقطع ليس في الصدقة فحسب بل في كل شيء، فأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل.
قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}.
وعن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلَّم - قال: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا».
صلِّ واذكر رباً لا يهمل من أتاه ودعاه، وتقرب منه في كل أحواله.. «ومن أتاني يمشي أتيته هرولة»..
امنع أذنيك من أن تستمع لكلام لا حاجة لك أو فائدة فيه، لا تدع غيرك يملي لك ما تفعل، فكر استشر، ادع وحكِّم قلبك بإنصاف وإخلاص وصدق.
الحياة جميلة فلا تعشها بنظرة المادي، فالمال لا يعدو أن يكون وسيلة نملأ بها فراغات الاحتياجات والمتطلبات، إذا جلست مع غيرك فإياك والمقارنة واجعل القناعة هي كنزك الذي لا يفنى، وخذ أحسن صفاتهم واترك أسوأها، فما نحن إلا خليط جميل من هذا وذاك، ولا تكن كالذباب يقع على السيئ ولكن كن كالنحلة تأخذ الرحيق الحلو من كل زهرة تجدها.
غيِّر من نفسك ولا تخجل من أحد، فالاستقامة والالتزام هما النور ومصدر السعادة والرزق والفلاح، الموت هو الثبات والسكون على شيء، والحركة والتغيير سنة الحياة، والحياة لا تغيرنا بل تكتشفنا ولكن لندعها تكتشف أحسن ما فينا.
اعلم أن الشر المحض غير موجود فأقدار الله - جل وعلا - هي الخير وإن بدت شرا في الظاهر بفهمنا القاصر، صلِّ ولو ركعة في الليل تنير قبرك وقلبك ووجهك وحياتك، ففي غسق الليل وظلمته ووحشته يولد الفجر المضيء وتشرق شمس الأمل والفأل، قالت لي أمي - حفظها الله وأمد في عمرها على الطاعة والخير - ذات يوم بالعامية: «ما تبي من الله سبحانه شي».
الوتر سنة مؤكدة وليس بواجب؛ والنبي - صلى الله عليه وسلَّم - لم يتركه في سفر أو حضر، وقد قال الإمام أحمد في رجل كان يتركه: «رجل سوء لا تقبل شهادته».
«اركض لله يركض لك» هكذا قالته لي أمي بالعامية - حفظها الله وأمد في عمرها على الطاعة والخير -. لا تغرنك الدنيا بزخرفها وجمالها فهي فتنة والله، روى الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلَّم - : «مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ همَّه جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا همَّه جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ».
لا تحاسب الناس وتنسى نفسك، ولا تكن كالفاجر يمضي قدما لا يحاسب نفسه، قال الحسن البصري رحمه الله: «إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة همته».
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، فإنَّ أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية».
في النهاية نحن بشر، والموعد الجنة الهدف الأسمى والصورة الأكبر والأشمل من كل شيء، فشق طريقك إليها وخذ معك من تحب ما استطعت، قد نخطئ وقد يضعف إيماننا، فلنحرص على تغذيته بكل طاعة وخير ولنجالس أهله ولنكن محبين لهم ولو لم نكن منهم، وتذكر أن من سلك مسلك قوم ورد عليهم.
قال الشافعي:
أحب الصالحين ولست منهم.. لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي.. ولو كنا سويا في البضاعة
لكل من قرأ شكرا لك، ولمن وقع هذا المقال في نفسه موقعا، أو وجد فيه نفعا، فدعاؤه لا غنى لي عنه.
اللهم اجمعنا في مستقر رحمتك ودار كرامتك، يا رب يا حي يا قيوم أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، واجعل ما نقوله من جميل قول فينا وحجة لنا لا علينا إنك ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.