يقول بيرك «يمس الشعر العدم فتسري فيه الحياة»، ولعل طبيعتنا العربية تجعل داخل كل شخص روحا تطرب للشعر وتأنس به، حتى لكأن الشعر الذي مرت عليه عقود يسكن أرواحنا. وابن العربية تسكنه القوافي والأوزان، ويطرب لها ما إن تحل ضيفة على أذنيه وقلبه. اللغة الشعرية القريبة من البيئة تصل إلى الروح مباشرة لتحلق بذهن سامعها إلى حيث يريد النص، لكن أي نص نسعى لأن نحلق معه؟ وأي حرف يطيب لنا الرحيل معه للأعلى باستمتاع؟ المشاهد أن القصيدة باللهجة المحكية الدارجة (النبطية) باتت تطرب السامع أكثر من قصائد لغتنا الأم.
-عربيتنا الفصحى-، فأصبح المترنمون يرددون «أعاني الساعة وأعاني مسافات - وأعاني رياح الزمان العتية» وقلما تجد من يردد «طبعت على كدر وأنت تريدها .. صفوا من الأقذاء والأكدار» أو ببيت فصيح يترنم به طربا. ولعل سبب هذا العزوف عن لغتنا الأم في حياتنا، وقلتها في استشهاداتنا هو أساس النصوص الفصيحة التي تلقيناها إبان سنين الدراسة، إذ غلبت عليها نصوص العصور القديمة ورواد مدرسة الإحياء من الحديثة، وهي نصوص تعد موحشة بالنسبة لطالب في مرحلة مبتدئة من تعرفه على الأدب، فخلقت تلك المفردات الصعبة والحواشي الكثيرة لشرحها فجوة بين الطالب والنص العربي الفصيح، وكبر الطالب وليس فيما حوله ما يضيق هذه الفجوة مما ساهم في تمهيد طريق نصوص اللهجة العامية إلى أذن المستمع. ولا شك أن في تلك النصوص ما فيها من قيم ولغة قيمة لا يستغنى عنه، لكن الاكتفاء به ساهم فعليا في الابتعاد عن هذه اللغة العريقة، وفي العربية تجارب فصيحة جميلة كعمر أبي ريشة، وصلاح عبدالصبور ونزار قباني، وغيرهم من الذين جعلوا الشعر الفصيح في متناول البسيط من الناس، يفهمونه ولا يجدون صعوبة في ذلك.
من اللطيف أيضا أن شعرهم يحمل مسحة من واقعنا، حينما أدخل نزار في قصائده الراديو، الجريدة، وما إلى ذلك من الألفاظ والمفردات التي استحدثت في القصيدة العربية، وإن كنت لا أوافق نزار في قوله «أنا لا أحب النضوج في الشعر، أحب الجنون فيه» لكننا فعلا بحاجة لأن نقلص الفجوة بين العربي وقصائد الفصيح، ولو كان ببعض الجنون المحمود، كأن يكون للنصوص العاطفية مجال بين دفتي الكتاب الذي يطلع عليه الطالب ست سنوات بداية من المتوسطة، اعتياد الجمال في العربية يرفع الذائقة ويسمو بالروح ويهذب النفس، فـ»الشعر الضوء الأقوى وعيد العقل».
- جامعة الأميرة نورة الرياض