هذه كلمات كتبها والدي الشيخ الدكتور صالح علي عبد الرحمن المحسن أستاذ العقيدة - جامعة القصيم بمناسبة تخرجي من ثانوية تحفيظ القرآن الكريم لعام 1435 - 1436هـ :
اللهم لك الحمد كله، وإليك يُرجع الأمر كله، إليك المبدأ والمنتهى. أنت الأول والآخر وأنت على كل شيء قدير، والصلاة والسلام على البشير النذير، ترك أمته على المحجّة البيضاء. لا ينقصها علم ولا تدبير، أما بعد:
- فبالأمس كنّا ننتظر مولودا، شقّ طريقه ومشى رويداً رويدا، حتى نما وكان أصلَب عودا، كنا نتأمل تلك النبتة وهي تنمو، قمنا بتربيتها. وأخذنا على أنفسنا في ذلك عهودا، كم خفنا حين تمرض، وكم سهرنا حين تتعب، نذب عنها ما يضرها، ونعطي لها ما يسرها. أخذت منا الكثير، كانت هي الهواء نتنفسه عند العناء، وننظر إليها فتعطينا الهناء، كم أضحكتنا بلغة الطفولة وكم آنستنا ببراءة وسهولة، حديثُها له صدى وكلامها له ندى، كم درجت أقدامُها النديةُ في الفناء، وكم أطربتنا بأصوات شجيةٍ كالغناء، ثمَ ها هي تكبُر وتدرُج وفي سلّم العلم تخطو وتعرُج، درست الابتدائي بتفوق ونجاح ونالت شهادة المتوسطة بصبر وكفاح، وها هي اليوم تملأ علينا الدنيا بقوة وإلحاح.
أي بنيّة؛ ماذا عساي أن أقول:
زمانٌ وذكرى، وصورٌ تترى تتداخل في مخيلتي. استرجعها. أقوم بفرزها وأرتبها، ثمانيةَ عشر عاماً مرّت بحلوها ومرها كأنها لمح خاطف، ما كنتُ أصدقُ أنّ تلك الطفلةَ الهادية. ذاتَ الأساور البادية. ستأخذ مصحفاً بيدها، تقوم في صباحها نشيطة ترنو لغدِها. وتجد في حفظ كتاب ربها. يا له من فخر لا يساويهِ فخر ويا لها من سعادة لا تعادلها سعادة.
أي بنية:
أي فوزٍ تعيشين؟ وأيُ مطلبٍ تبغينْ؟ وأي منهل تَرِدين، لقد حُزتي أعلى السلع وغنمت أعظم المكاسب.
أيّ بنية:
لقد تشرفتِ بكلام فاطر السماوات والأرض؛ الذي أوجدك من العدم. والذي يقول للشيء كن فيكون، إنه الإله الحق. إنه الرب مالك الملك، العظيمُ المعظمْ الجبارُ المنتقم. إنه الله وكلامه أشرفُ كلام وصراطه مستقيم، من سلكه لا يظلم ولا يُضام. هل تخيلتِ ذلك الجبل الأصم، والصخر الأشم إذا كنت بجانب ذلك الجبل أي قوة تتخيلين. وأي علوٍ تنظرين؟!
أي بنيّة: هذا الجبل الشامخ يخيّل إليك ألا قوةَ تزيله ولا عظمةَ تُميله؛ لكنّ كلامَ الله لو أُنزل على هذا الجبل لتصدع، لتصدع من عظمة هذا القرآن، ولأصابته رِعْدةً تجعله ذاهلاً حيران.
أي مشاعر تبعثها تلك المشاهدُ والصور، ما كنت أتمناه في أيَّام طفولتها، أراه الآن حقيقة تتجلى أمام عينيّ، أي شجونٍ يثير الدمع في العيون ! دموع فرح وشكر، دموع حمدٍ وذكر.
أيّ بنية:
جاء في الأثر أنه من حفظ القرآن فكأنما استدرج النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يُوحى إليه، لقد حزتِ الفخر بحفظك كتابَ الله، وتحملتِ أمانةً عظيمة، أمانة العمل بالقرآن، أمانة مراجعة القرآن ومدارسته؟
أي بنيّة:
إياكِ ثم إياك أن تأخذكِ متعُ الدنيا ويجرُفكِ نهرها بعيداً. فتنسي كنزاً عظيما. تعبتِ في تحصيله.
إنه غبنٌ وأي غبنٍ أن تُهملي منحةَ الله إليكِ في حفظ كتابه.
أي بنيّة:
كوني عاقلةً حصينة، رتبي أمورَك وجدولي أوقاتَك وخصّصي لمراجعة هذا الكتاب وتدارسه وقتا.
تجدين في ذلك طمأنينة وأُنسا، ألا بذكر الله تطمئنُ القلوب.
يا من حفظتِ آلم. والنساء والتوبة. هل لك من رجعةٍ صادقةٍ وأوبة؟ يا من حفظت الكهف ومريم. والحج والنور. أبشري بجنانٍ وأنهر وحبور، يا من حفظتِ الأنبياء والقَصص والعنكبوت. لا يكن لك واعظاً غيرَ الموت، يا من حفظت الأحزاب والسجدة. والأحقافَ والجاثية والذاريات والطور. لتكن تلك السورِ عن النار لكِ سور.
أي بنيّة:
لقد تعِب العالم بعقلائه ومفكريه في أن يجدوا حلاً لمعضلة العصر، وقاصمة الظهر، الكلّ منها يهرب. والعالم بسببها يخرب، إنها مشكلة الهم والغم. لقد باءت بالفشل كلُ نظرياتهم في تحصيل السعادة. لقد ملّوا الحياةَ. لم تنفعهم أولادُهم ولم تغنِ عنهم أموالهم، يسرف أحدهم في متع الدنيا وملاذّها يبحث عن سعادة وراحة ثم يعود حزينا كئيباً كأنّ جبال الدنيا فوقه.
أي بنيّة:
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوَم. وهو عند أولي الألباب أعظم، نعم؛ أعظم علاجاً لكل مشكلة، وأعظم أنموذجاً يُقدم للعالم ذلك العالم التائه الحائر، لقد قال الكاتب البريطاني: لو جاء محمدٌ إلى العالم لحل مشكلاته وهو يحتسي فنجاناً من القهوة، فمالكم عن التذكرة معرضين؟ أليس منكم رجل رصين!
فوالله ثم والله لن تُحلّ مشاكل العالمْ ولتزدادَ سوءا بعد سوء ما دُمنا عن الكتاب معرضين ولمناهج الكفار متّبعين.
فاللهم لك الحمدُ والثناء، تقدّست أسماؤك، وعظُمت آلاؤك، تباركت ربنا وتعاليت. اللهم أوزعنا أن نشْكر نعمتَك وأتمها علينا برحمتِك.
سبحانَ ربك ربّ العزةِ عما يَصفون وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
القصيم - البكيرية