تمر بنا الحياة نحن بني البشر نخالط بعضنا ونتآلف ونأنس ببعض، تجمعنا المواقف وتفرقنا الأيام لكل منّا صفات ومميزات تختلف عن الآخر، منّا القوي القادر على التحمل ومنّا الضعيف العاجز الذي لا يتحمل المواقف.
نتعرض فيما بيننا لمواقف فيحصل في النفوس شيئاً يزعج النفس ويؤلمها ويجرح المشاعر ويبقى في النفس على الآخر ويحمل عليه - بغض النظر عن قوة الموقف - إن الأمر الذي نحن بصدد الحديث عنه هو: كيف حالنا مع التسامح والعفو عمّن أساء إلينا.
إن العفو والتسامح وضبط النفس في المواقف من الأخلاق العظيمة التي دعا إليها الإسلام وحبب فيها ورغب وهي من أبرز صفاته صلى الله عليه وسلم حيث ذكره تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) سورة القلم.
وهو دلالة على صفاء النفس وسلامتها من الغل والحقد والحسد، فالعفو والمغفرة من أسمائه تعالى فهو العفو الغفور سبحانه ولا يسامح ويعفو إلا صاحب الشخصية القوية القادر على كبح وضبط جماح نفسه بعكس الضعيف الذي يسيره هواه ويكون أسيراً له.
العفو والتسامح بين الجماعات والأفراد محفز على تجنب تكرار الشر والفساد وقد وجه سبحانه نبيه إلى الصفح قال تعالى {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} (85) سورة الحجر. ووجه إلى العفو {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (199) سورة الأعراف.
وأيضاً مدح سبحانه الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، حيث قال سبحانه {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (134) سورة آل عمران. فقد وصفهم سبحانه بالمحسنين وأسبغ عليهم صفة الإحسان على المسيء في حقهم.. وفي هذا تكريماً لهم.
وللعفو والصفح والتسامح آثار على حياة الفرد والمجتمع الاجتماعية والصحية والنفسية،
فمن الآثار الصحية والنفسية: أن الرضا عن النفس والحياة بشكل عام يعالج كثيرا من الاضطرابات والتوترات والأمراض النفسية وأثبتت الدراسات أن الأشخاص المتسامحين أكثر سعادة من غيرهم وأفضل صحة حيث أنهم لا يعانون من التوتر ولا ارتفاع في ضغط الدم ولا أمراض القلب إضافة إلى أن التسامح يقوي جهاز المناعة.
ومن الآثار الاجتماعية أنه ينتج عن ذلك تآلف القلوب وتماسك الأفراد وتضاؤل الحقد والحسد والغيرة والجرائم وغيرها في المجتمع، ويؤدي إلى انتشار بيئة اجتماعية جميلة تهدف إلى التآخي والتواد والتراحم.
إن العفو والتسامح حقٌ ثابت للعافي وليس للمعفي عنه وهذا الحق اختيارياً مبتغياً فيه وجه الله تعالى ورضوانه حيث إنه لا يعفو إلا كريم.
ولا يتنافى هذا أبداً مع إسقاط العقوبة في حق المخطئ لكن الأولى الصفح والعفو حيث قال سبحانه {وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (14) سورة التغابن.
مما يؤدي إلى المحبة والتآلف بين أفراد المجتمع وضرب أروع الأمثلة في الأخلاق الإسلامية التي بعث الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم متمماً لها، فمن عُرف بالعفو والصفح ما زاده ذلك إلا رفعةً وعزة.
ولكن هل يعتبر العفو ضعفاً وقدحاً في الشخصية؟ ولماذا لا نسامح ولا نستطيع أن نعفو؟ ولماذا تكون المواقف السيئة عالقة وحاضرة بأذهاننا أكثر؟
جواب ذلك بسيط وهو أننا لا نعرف كيف نعفو ولا كيف نسامح ولا نعرف آلية العفو والصفح.. ولا يتم ذلك إلا عن طريق تدريبات إما شخصية أو عن طريق دورات تدريبية فهو أمر ليس بالسهل ولا بالمستحيل أيضاً.
فالبعض يتخوف إن سامح وعفى سيتكرر الخطأ مرةً أخرى، ولهذا نقول عليه أن يتعلم سياسة العفو لا الضعف ولا يسمح بتكرار الخطأ في حقه مرة أخرى، هو هنا يتعلم سياسة الصفح والعفو لا الخضوع والخنوع.
إن مشكلتنا في فهمنا للتسامح وقناعتنا أنه ضعف للشخصية (فالقوي لا يسامح) لكن علينا أن نتعلم كيف نعفو لا أن نضعف حتى لا يزداد الأمر سوءاً وتسيطر علينا الأمراض نتيجة ضعفنا وفهمنا الخطأ للعفو والتسامح.
فهو مهارة علينا تعلمها في أي وقت وأي زمان وليست مرتبطة بعمرٍ معين مجرد قناعتنا بها وفهمنا لها من منطلق ديني وجني ثمارها هو أول خطوات النجاح على الصعيد الشخصي أولاً ثم المجتمع ثانياً فضلاً عن الأجر من الله.
إننا نسامح من أجل السلام والإسلام والارتقاء بالنفس البشرية لأعلى الدرجات ولا يلزم ذلك شروط أو قوانين لنحقق العفو والصفح، مجرد أن تصفو الروح وتتجلى بالعفو هذا هو المطلب حتى نصل إلى درجة السلام الداخلي والصفاء مع أنفسنا.
إن العاقل هو من يحافظ على مجاله الحيوي ولا يسمح لكائن من كان أن يتجاوزه أو يقترب منه.. رضي من رضى وسخط من سخط.
هنا سيكسب احترام الآخرين وقبل ذلك احترامه لذاته وستتضاعف قدراته وتتجلى مواهبه ولن يخسر المجتمع عضواً فعالاً.