إنه زمن الخلط العجيب والجرأة غير المستغربة من بعض من يدّعون أنهم محللون سياسيون للأحداث المأساوية التي تتعرض لها أمتنا المكلومة ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً.. لم نكد نستفيق من هول ما نسمع من تخريفات وسفسطات وتهويمات باسم التحليل الرياضي حتى ظهر أشباهُ أولئك عبر القنوات الفضائحية المتعددة يطلون علينا ليشنّفوا أسماعنا!!.. بعبارات ملؤها الادعاءات الكاذبة، والتضليل الفاحش، عبر ما يطلقون عليه «حِوارات» وما هي إلا «خُوَارات» - أصوات تُسمع - متشنجة وصاخبة تظن أنها بهذه الأساليب الفجة قادرة على أن توصل مفاهيمها المغلوطة إلى الأسماع رغماً عنها!
ما درى أولئك المفلسون، المشتراةُ ضمائرهم بالعملة الصعبة، والمأجورون حتماً أن درجة الوعي عند المتلقين بلغت حداً صاروا فيه يمجون هذه الضجة البلهاء, وهذا الصراخ المفتعل - كبكاء النائحة المستأجرة -.. أدب الاختلاف في وجهات النظر يفرض على كل طرف أن يحترم الطرف المقابل، وفي هذا دلالة لا تخفى على احترام المشاهدين القابعين في بيوتهم والمنتظرين فائدة تُرجى.. لكن أنّى لمن عنده شح في هذا أن يتمثّل الاحترام وهو فاقد له، وقد أتى إلى الأستديو أصلاً لعسف الحقائق بالرغاء، وللظهور أمام الملأ بمظهر المحق المنافح عن الحق، وهو من غير هذا الصنف!!.. أحسب أن في هذا التقديم ما يغني عن الخوض في مسميات أشباه البرامج هذه، أو المشاركين فيها، لكنهم باختصار «نقّالون» ينقلون وجهات نظر من يملونها عليهم وفق منهجية بائسة ويائسة للإساءة أولاً، ثم لكسب التعاطف لا أكثر ثانياً، وإلاّ فهم يعلمون أكثر من غيرهم أن الباطل والشر بادٍ على وجوههم الكالحة عبر الشاشات، وهم بهشاشتهم يستميتون لتبرير أفعال من تلطّخت أياديهم, وسفكت آلياتهم وانكشفت نواياهم ومخازيهم!
ميليشيات طائفية تتسمّى زوراً وبهتاناً بأسماء خالدة ونزيهة تتناقض تماماً مع ما يرتكبونه من جرائم بشعة ومخازٍ يندى لها جبين الإنسانية «المأسوف عليها» كنوع من التدنيس البشع لهذه الأسماء والرموز، وكذلك التدليس على من يمكن أن تنطلي عليه هذه المخادعات, وهذا التزوير والتغرير!.. وإمعاناً في الاستغفال، يدّعون بأنهم يحاربون الإرهاب - وهم أهله - فوا عجباً للصوص ومجرمين وقتلة يعيثون في الأرض مفسدين، ويتدثرون بلباس الدين، معممين وملثمين، ويظنون بأنهم في منأىً عن أعين الرقيب غائبين!!.
وردت لفظة - المراء - في القرآن الكريم باشتقاقات كثيرة بلغت ثماني عشرة مرة، وتتردد معانيها بين الجحود والشك والجدل المذموم، وفي الحديث عن أبي أمامة مرفوعاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه» رواه أبو داود والترمذي.
أسوق هذا الحديث لتعلموا أحبتي أنه من كان صادقاً في ولائه ومحبته لهذا الدين العظيم وأهله، لا يمكن بحال أن يفرّط في مثل هذه الأجور والوعود ممن.. {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} صلوات ربي وسلامه عليه إلاّ أن يكون جاهلاً، أو مكابراً معانداً، أو صاحب هوى والعياذ بالله قد.. {اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (23) سورة الجاثية، لكنهم آثروا الحياة العاجلة الزائلة على الحياة الآجلة الباقية، وباعوا العليا بالدنيا.. {لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} (79) سورة البقرة، والذين أغروهم أتُراهم ألهاهم ما هم فيه من اتباع للهوى المطاع، مشابهتهم في المحاربة والصد عن دين الله من قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} (36) سورة الأنفال.
لعل من أوضح إيجابيات الفتن والأزمات «كشف عوار الحربائيين»، فشكراً لهؤلاء الذين أبانوا عن معدنهم الانتهازي الرديء، وأزالوا أقنعتهم المزيفة بأيديهم أنفسِهم طواعية، واهمين أن الوقت قد حان للقيام بدور البطولة - الحلم - فأدوار الكومبارس والبديل لم تعد ترضي طموحاتهم الذليلة والدنيئة.
جزى الله الشدائد كل خير
عرفت بها عدوي من صديقي
ويقول شاعر آخر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
كما أن عين السخط تبدي المساويا
لكل دعِي من هؤلاء الأدعياء الذين اشتروا دنياهم بآخرتهم طمعاً في «كرسي» أو باعوا ضمائرهم رخيصة للشيطان أو الهوى، لهثاً وراء سراب، ستدفعون الثمن غالياً في الآجلة يوم تبور السلع والأثمان، ولو كانت مثل خزائن قارون أو ملء الأرض ذهباً؛ إذ كيف رضيتم للدماء البريئة الزكية أن تُراق؟! يا من أبحتم سفكها في سوريا واليمن، ومن قبلهما في العراق.
فأما والله لو شئتم لقلتم ولصدقتم: إنما فعلناه تبعاً لما في صدورنا من ضغائن وأحقاد اشربناها على الإسلام وأهله المخلصين؛ الدين الواضح الجلي، المنزل من عند الله - جل في علاه - لا دين الشعارات والهتافات!.. ولو أردتم لقلتم ولصدقتم: غرنا أهل الأهواء والأنواء والأبراج، وحسبنا أن فرقتنا هي - الناجية -، وإذا بها تتخبط في دياجير ظلماء، تجري خلف كل «سراب» تحسبه ماء! أما نما لعلمكم أن الفرقة هذه طريقها مستقيم ما التوى، جاء ذكرها ووصفها على لسان خير الورى - عليه من الله أزكى صلاة وسلام -: «ما أنا عليه اليوم وأصحابي» أما لو شئتم لقلتم ولصدقتم سرنا زرافات ووحدانا خلف من ظننا أنهم غير مزيفين، يرفعون عقيرتهم لشحننا مولولين، وما رأيناهم قط لما به يأمرون به مسترشدين! فكيف لنا أن نعرف وبضاعتنا مزجاة في مسائل الهدى والدين؟! فأينكم إذاً من.. {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.. الذين هم من معين الكتاب والسنة المطهرة ينهلون، وبهما يبلغون، وعلى ما كان عليه السلف الصالح يسيرون؟!
وما لا يُحتاج أن تقولوه لأن الكل به عارف، أنكم غرّكم أصحاب الفتاوى المنمّقة، والآمال العريضة المعلقة، فتُهتم بين لججها المهلكة وأمانيها المؤرّقة! ومشابهيكم يقولون: ما كان لنا على الشبهات والشهوات من طاقة، صرفتنا عن «هود» وأخواتها.. الواقعة والمرسلات والحاقة! فشابهوا وشابهتم أسلافكم «القدوات» - بزعمكم -، أصحاب (إئذن لي ولا تفتني)، أما علمتم أنها دار غرور، غركم فيها بالله الغَرور؟!.. أما لو صدقتم مع أنفسكم ومع غيركم لقلتم: كثرت الأبواق والبيارق، فذاك «مذياع» ينبح فيه كل ناعق، وتلك «قناة» صارت مرتعاً لكل منافق!. والواحد منا بين هذه وتلك غارق، فهل من يد حاذق؟؟.. فامدد يدك إذاً.. للحبل الذي طرفه لديك الآن.. إن كنت صادقاً، فهو السبيل إلى النجاة وبر الأمان إن كنت بالله «واثقاً».
لعل من أهم وسائل التصدي - بعد توفيق الله عز وجل - على المستوى الفردي، هو أن لا يهدر المسلم وقته في ما لا طائل من ورائه: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ).. (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع، عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه).. صحيح الجامع.
وأما على مستوى القنوات، ليعلموا أن الكلمة مسؤولية عظيمة، فهي إما طيّبة وإما خبيثة؛ فإن كانت الأولى فابشروا وأمّلوا، وإن كانت الأخرى فستندمون حين لا ينفع يومها ندم؛ ذلك بأن الكلمة الطيبة نتاجها محمود، فهي.. {كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}، وأما الكلمة الخبيثة فنتاجها مذموم كونها.. {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ}؛ والنتيجة الطبيعية لثمرات الطيبات.. حسنات، والنتيجة الحتمية لثمرات الخبيثات.. سيئات فـ.. {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}.. {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.. { فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ }.. عياذاً بالله. ارعِ سمعك وبصرك وكل جوارحك - أيها الإعلامي والمشارك في الحوارات الغوغائية - لهذا الحديث الشريف.
عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أنه قال للرسول صلى الله عليه وسلم: أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار قال: لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسّره الله عليه؛ وجاء في آخره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه وقال: كُفَ عليك هذا. قلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح.