تلقيت قبل أيام رسالة من مرشدي الأكاديمي بالولايات المتحدة الأمريكية يهنئني فيها بمناسبة لدي فالتواصل الاجتماعي فعلاً جعل العالم يعيش في صورة القرية الصغيرة بدلاً من حقيقته كوكباً شاسعاً مترامي الأطراف. أثناء قراءتي لرسالته استذكرت تلك الأيام واللحظات التي كنت فيها طالباً مغترباً بالولايات المتحدة باحثاً عن درجة الدكتوراة. أتذكر ذلك اليوم الذي حضرت فيه في أول محاضرة وكان يعرفني على بقية الفصل ولم ينطق اسمي جيداً ولم أبالِ في تصحيحه.
بعد أن اكملت المتطلبات المنهجية أتذكر حضر مرشدي للمحاضرة ليعرض مواضيع بحثية للطلبة لكي يتبنوا من خلالها بحث الرسالة. وكان من ضمن المواضيع العمليات اللوجستية للجيش الأمريكي ورفع كفاءتها أثناء المواجهات. ينتج من خلالها جداول رياضية لا يوجد لها حل «حالياً» وليس أمامنا سوى حلول تقريبية نقدمها في مدة زمنية مقبولة. عندما زرته في مكتبه فيما بعد بادرني باقتراح أن تكون محور رسالتي موضوع العمليات اللوجستية الذي اقترحه بالمحاضرة.
عندها أجبته وبكل تجرد متسائلاً: أليس من الأجدى أن ندرس العمليات اللوجستية في إدارة الأزمات بشكل أوسع بدلاً من أن نختزلها فقط في إدارة الحروب خصوصاً أن الحكومة الأمريكية في إدارة بوش الابن كانت تواجه نقداً لاذعاً يتهمها بسوء إدارة أزمة عاصفة كاترينا التي ضربت شواطئها الجنوبية عام 2005م أردفت بعدها دون أن ألتقط أنفاسي, ومنها تعفي عربياً من دراسات عسكرية قد تخدم بلدكم وأحد البلدان العربية «العراق» وقتها في حرب مباشرة معكم يا أستاذي العزيز.
قلتها محاولاً محاكاة شخصية مرشدي الأكاديمي والذي لا يقيم للمجاملة وزناً وقد يفشل من تشرب الثقافة العربية في التفريق بين مهنيته وجفائه. نظر إلي مبتسماً وقال بل فكرتك أشمل وأجدى ولم يكتفِ بذلك بل أصبح يذكر هذا الحوار حيثما وجدني مجتمعاً بأحد الأساتذة في ردهات القسم. لقد تمكن فيما بعد من أن يحصل على دعم مالي سخي من إدارة الأمن القومي الأمريكي للإشراف على هذه الرسالة وبعض الرسائل الأخرى المرتبطة بالموضوع.
أتذكر هذه الأيام بالأمس واليوم أقول لم تعد الحروب تكسب بالعدة والعتاد أكثر من كونها تكسب بكفاءة العمليات اللوجستية التي تدور فيها. العمليات العسكرية المرتبطة مع بعضها البعض سواء ارتباطاً مباشراً أم معقداً يجب أن تسري في سلسلة مدروسة من الإمداد والتموين للأطراف المعنية وتدار بطريقة لا إخلال فيها.
الدراسات تقول عندما يتواجه جيشان في أرض المعركة فالجيش صاحب المرونة العالية في عملياته اللوجستية وبإدارة فعالة للمخاطر وحساباتها حظوظه للكسب أعلى وبكثير من حظوظ الجيش المقابل والذي يدار بطريقة لوجستية بدائية حتى ولو كان يفوقه حجما بأضعاف. بالتأكيد أن توفيق الله عز وجل يأتي قبل كل شيء فلا ناصر لنا دون نصره وما ذكرناه من باب العمل بالأسباب التي أمرنا بها.
في أغلب الأوقات إدارة العمليات اللوجستية أثناء المواجهات تتم في ظروف الأزمة أو ما يسمى خارج «الظرف المعتاد» مما يرفع من مستوى صعوبتها. فكما وُجدت الصعوبة التطبيقية في بعض الميادين سترافقها الصعوبة الظرفية التي تحد من الخيارات المتاحة وسبل تحجيم المخاطر فيها. ليس هذا فحسب بل تزداد الحسابات اللوجستية تعقيداً في حالات تجمع تحالف مؤسسات عسكرية من دول عدة كما هو الحال في تحالف عاصفة الحزم إذ يتطلب الأمر مركزية القرار لبناء الإستراتيجيات التي تعزز من التمكين في ميادين المواجهات بمشيئة الله.
نعم التنظير على الورق سهل وأقل كلفة من التطبيق على أرض الواقع ومن ينعم بالأمن خلف مكتبه لن يرى ما يراه الجنود في ساحات المعارك. اختم مقالي برفع الدعوات الصادقة من القلب لإخواننا وأبنائنا المرابطين بالحد الجنوبي. اللهم احفظ أرواحهم وسدد عنهم وانصرهم على من عاداهم في كل مكان وزمان. اللهم احفظ مملكتنا الغالية من كل شر وأدم راية لا إله إلا الله محمداً رسول الله بكل شموخ وعز خفاقة.
أستاذ هندسة النظم المساعد - جامعة الملك فهد للبترول والمعادن